كنت أعرف أنها تسير في روحي، تترك آثاراً أكتشفها في وقت الجرح حين أتساءل عن العمر القديم أين رحل؟
كنت أعرف أن اللحظة التالية لا تشبه التي ركضت وفلّت من قبضة الزمن.. لذلك لم أكن أغمض عيني حين كانت تطلب مني أمي ذلك، كان لدي شعور في روحي يتردد "لا تفوت هذه اللحظة، وإلا فاتك العمر".
كل يوم تأخذه الشمس في أشعتها، تزداد حياتي ظلاماً، هل ظلمتني الشمس أم أن هذه حكاية أمي لننام مبكراً؟
كبرت مصدقاً هذه الرواية ومقتنعاً بها..
عجيب ذلك الإنسان الذي حاول أن يصنع آلة الزمن، ما الذي دعاه لفكرة أنه يريد السفر إلى المستقبل؟ أشوَّح له من المستقبل بشال أبيض يعلن انفصاله عن الوقت؟..
لا نحتاجها الآن، تعال فقد داست علينا كلنا وأصبح العام الواحد يوماً واحداً، ولا نستمتع بالرحلة ولا نصل إلى الهدف..
كنت طفلاً ذكياً يعرف أن في الطريق ألغام، وحذراً في الأفراح التي تصيب العائلة، وأحب الوطن كما لم يعرف حبه أحد، وإن سألني أحد عن حالي، فكرت بالأمر وقلت تالياً أخبرك..
لن يمر البرق من رؤوسنا إلا لو حملنا الماضي وتفاخرنا من دون أن ترعبنا حداثة العالم السائح في سفينة أخطأوا عنوانها، وقد سبقنا نوح، وبقيت المهزلة في روحنا..
العالم مشغول في نقر أبواب لا تُفتح، وأصابعي على الرغم من آلة الزمن التي تحاول بترها إلا أنها ترسم عالماً أزرق، يدخله الأطفال من كل اتجاه، يجدون فيه الأجداد يركضون في سهول خضراء، ويسبح الأطفال في عالم ازرق لم يعد الخوف رحالاً فيه، يسمعون صوت أجراس لا تغيب، وقت سجين في قبضة السماء، لا يذبحنا ولا ينصب عيوننا مقابل جدار الانتظار..
اليوم يمر وأنت تلهث وراءه، وتضرب نهاية الأسبوع راحتك، وشقي قدرك لأنك لم تعرف قيمة الماضي في الماضي، فلا تبتئس الآن وأكمل الطريق واقتنع أن الجهاد نفس، والنفس ضد النفس من أشرس المعارك التي يخوضها الإنسان في عالم يخوض معاركه خارج حقله!
العالم الحديث مُغيض، بالأمس كانت الأعوام بطيئة والعمر طفل يلهو على الطين، الآن العام الواحد يساوي يوماً واحداً، وجدتي حين حسبت الأمر حسمته، وقالت للموت خذني للغياب، لا أريد زماناً يلهو في سجلات ذنوبي، خذني لم يعد في الطريق طريق يعجبني، اكتظ الناس حتى أنهم لم يعودوا يرون بعضهم، يدوسون بعضهم بالمال والآمال ويخرجون على المنصات يستعرضون بطولات لا تنتهي، وجياد الزمان سلمت أبطالها حين عرفت أن الوقت فارغ منذ أعلن أن الحداثة جاءت لتُلغي وتهزأ من كل قديم، لتصنع من النعم أموراً عادية، ومن المؤمنين طوائف لم يصادقوا الله، ومن العلماء أئمة الرؤساء، ومن الإنسانية دروساً إلكترونية، ومن التجارة مهارة التعدي على حرمات الله..
كنت أعرف أن الزمان الذي نودعه لن يعود مثله أبداً، وأنه يُدفن في أرواحنا، وكل ريح عاصفة تهب تتعرى أكفان أرواح الطفولة التي سترناها..
كنت أعرف أنه سيرتدي كفناً طويلاً يجره خلفه في الليل طارقاً باب عقلنا..
"أين ذهب الزمان القديم؟"