سألت معلمي مرةً عن أمه، فضحك، واستعملني مادة للسخرية، كان علي أن أسأل معلم الشعر بدلاً منه، ليصنع من أفكاري شعراً..
ورثت الفكرة عن أمي حين سألتها، وروت لي عن الحياة، كل ما فيها كتب بقلم رصاص.
أخذ السؤال مساراً لحياتي، حيث أنني لا يمكن أن أتخيل حياة الفرد دون أمه، دون أن يكون له كتف ثابت، ويد ثالثة، وقلب آخر يستعين به في حلبة الحياة، منتهى المقاصد..
يخيل لي دائماً أن الأمهات روح مصلوبة في وجه العالم..
الأم سيدة جربت حكاياتنا التي نرويها لليل، وتقسم على أنه عدو للأرواح، وتخشى علينا من أشباح الأفكار، وتغذينا بالنصائح كل صباح، وتدفع عنا الفضائح، وتقسم على أنها تعرف ما يُخبئ لنا الزمان، كأنها قارئة الفنجان.تغسل أحزاننا المخبأة في سراويلنا، وتنهر الليل عن خدش عيوننا بالسهر، وتخبئ الدعوات في طهر الفجر، وتبكي عنا حين نُداري دمعنا.. وتشهر سيف محبتها إذا جرحنا عابر..
والله لو كنت أعيش في بلاد الشمس، وبردت قليلاً، لارتجف قلب أمي وشعرت بي! إننا بالنسبة لأمهاتنا قلوب تسير على الأرض، قلوب أودعتها الحياة، وغلفتها بأدعيتها من جغرافية المكان وتقلبات الزمان.
هل ندرك ذلك أم أصبحنا نتجاهل؟ لا، لم نعطه حقه، يمكننا تعلم الأشياء أحياناً بإدراك غيابها، وهذا درس علمتني إياه أمي، حين قالت:
- إذا أردت معرفة قيمة الشيء بالنسبة لك، أغمض عينيك وأشعل ذاكرتك بتخيل غيابه عن حياتك..
حينما مرضت مرضاً شديداً، أقسم أن أمي مرضت أكثر مني لمرضي، وكلما شعرت بألمها تألم قلبي أكثر، وكم وددت لو أدفن ألمها في قلبي لا قلبها، كلما تعلمت منها درساً صنعت منها صديق مخيلتي، أغمضت عيني وتخيلتها دوماً معي في كل مكان، أصبحت روحها تلاصقني على هيئة ملاك أستطيع لمسه والتكور في أحضانه.. ووقفت برهة حينما علمت برحيل امرأة كنت أهرب من منزل أمي إلى منزلها، جارتنا زينب "رحمة الله عليها"، عندما تعبر الطريق لا شعورياً تغمض عينيك، وتشعر كأنك تمر أمام جنة من الفل والياسمين والقرنفل، ورائحة الذكريات هناك، إلا أنها عاشت بلا طفل.
حينما رحلت تألمت، وتساءلت هل اليتيم يقهره رقم واحد! الذي يقف وحده دون سند من أحد؟
وحينما كثرت التساؤلات، هربت لحضن أمي، فأغمض عيني وأستشيرها، وأبتسم حينما تقبلني، كلما استشرتها في شيء تقلب السؤال في وجهي:
- معقول قلبك لم يدلك بعد؟
نعم أصبحت أمّاً صلبة مثلها، دربت أطفالي على المشاعر المختلفة، أجرحهم برقة لأعلمهم أن هناك فراقاً، وهناك لقاء، وما بينهما رقم واحد "الحياة"،
وللبقية همسة: إن الأمهات أشجار مقلوبة، فرعها يواجه السماء، إنهن أصل الحياة. جملة أمي للتو فهمتها: كل الأمهات كروت محروقة، لا يهمهن سوى أن يحترقن حتى يصبحن رماداً بأيدي أحبابهن..
لا أستطيع تخيلك رماداً، لا يمكنني.. ذلك يا معنى الحياة!
أصدقائي الأيتام.. أشجارً مقطوعة وموزعة كأقلام رصاص حول العالم، اعذروني ولكنه شعور قاس..
لا أريد ان أكون قلم رصاص.. يوماً.
أصدقائي الذين كلما سألتكم عن أمهاتكم أجبتموني بكل هدوء: مشغولين! عزائي لقلوبكم الميتة السوداوية، رغم فخامة اللون الأسود أنتم الأيتام.