كل يوم، تصحو لترتب يومها، تكوي الجروح، تصقل الروح، تمسح الغبار عن ذكريات أبت أن تودعها، تُقبل الهواء كأن النسمات وجوه أحبة، يعلو صوت الضحكات حتى لا يخلو الحزن بها، مذهولة بالريح التي تحمل روائح صيفية مذهلة، كالبحر الذي تركه الغريب في قلبها، والليل الذي أودعه الأصدقاء تحت عينيها وهي أمينة الأسرار، فحمة إذا اشتد الأمر وسط النيران.. احرق أكثر، لن يخرج مني سوى الرماد..
أذكر عنادها الذي نراه في عينيها حين تصر على الرفض، تنظر إلينا بحدة حين نعرض عليها جولة إلى البحر، تُعد أشواقنا والأغنيات، تُحمّل روحنا الكثير من الأمنيات، وترسلنا وهي قائلة: "البحر في قلبي، الغرق هنا"، وتودعنا بمرح يدعوك لأن تعود إليها..
إنها تعني بالوداع عودة، في كل مرة تودعك ستشعر بأنك لا تغادر، إنما أنت عائد، هناك قوة تشدك من قلبك نحو قلبها، على الرغم من أنك لم تحبها حين كنت أمامها، كانت مثل أختك، أمك، من الذين لا تتصور وداعهم إلا في وقته..
إنها من أولئك الذين لا يكبرون الأمور، يكتفون بتبريرهم "إنها كبيرة وحدها"، وتدهشك قدرتها على أخذ الأمور ببساطة تامة، فلو قرص أحد قلبها أخبرتك بالحكاية وتُنهي الحكاية الشريرة بمقصد خيَر "قد لا يكون قاصداً ايذائي"، وتكمل عيشها ملتفة بعناية وثقة حول نفسها، لأنها تدرك حقاً أنك لن تؤذيها إذا ما سمحت لك هي بذلك..
قلبها، يؤلم الشوائب فيك من صفائه، وكما تصفه ساعة رملية، تنادي بالحب قبل نفاد الوقت، عمرها مجهول، لكن الضحكات قصيرة، تنبت على الشفاه، والعيون لامعة توحي بدهشة الطفولة المستمرة مع كهولة الشباب، تفرك جراحها بالملح والليمون أمامك، وتخبرك أننا نحتاج أحياناً الألم لنعالج الألم..
تخبرني بأنها تحب العالم مع أنه يقف على صدرها، وتحاول كل صباح دفن الموت بعيداً عن متناول كل الأطفال الذين لم تلدهم من رحمها.. من إحدى قصصها التي تبعث في نفسي رعباً محبباً بشكل شخصي وهي تقلب الجمرات في حفرة النار، أنها كانت مهووسة بفكرة الولادة واستيقظت ذات صباح وتوجهت إلى المستشفى، في قسم الولادة تلصصت على صرخات النساء التي تبعث الحياة مرة أخرى، وكانت تصرخ في روحها، وتهتز من داخلها كأنها شجرة يحاولون اقتلاعها، وهكذا كل يوم تُنجب طفلاً في ذاكرتها وتعود إلى المنزل من دونه، تربيهم في ذاكرتها، وتضحك قائلة في وجهي قد تكون أنت إحدى من صرخت لأطلقهم من روحي..
وحين سألناها سؤالاً حقيقياً مغلفاً باستفهام عن عمرها وصفته بأنه "ثقيل"، لم يمر عليّ أحد مسبقاً واصفاً عمره بالثقل!
وقالت إنها رحالة، وحان وقت المغادرة، بكينا لأننا لم نتوقع أن تكون فصلاً من حكاية العمر..!
لم تقل وداعاً حين تلفظنا بها، بل طبعت قبلة على وجوهنا للمرة الأولى، وكأنها تقول سأبقى رغماً عن خيانة الذاكرة وخديعة الأيام..