مساء الخير أو صباح الخير، فاختلاف الناس كاختلاف التوقيت بين بلد وآخر،
ولكن أغلب الناس في هذه اللحظة جالسين، فأحدهم يتأمل وجة الآخر، وأحدهم يتأمل الغياب الذي نهش أوقاتهم، يأملون بالتعويض.. يأملون ببعض من التفاؤل؛
وكلما سمعت عن أحدهم انزويت في مكتبي مع كوب قهوتي المرة بحجة الكتابة،
ولكن الحقيقة أنني أهرب من الاستماع لقصة قد تذيب سعادة قلبي
فالأغلب أصبح مدمن "الشكوى"، وإن لم يكن هنالك ما يدعو للشكوى، ستراه يشتكي، الأسعار، الوظيفة، العائلة، الحال و و و.
لم أؤمن يوماً بأن الحياة رمادية اللون، فقد غلب علي الرضا بالسواد أحياناً والبياض أحياناً أخرى؛ فلم نخلق مثاليين، نعم أعترف بالأمس كنت متعبة ولم أشعر برغبة في العمل أو الكتابة أو حتى مشاهدة التلفاز، بل جلست قبالة المرآة أتصفح ملامح وجهي وأتذكر الليالي التي طالما هربت من عائلتي لأرسم ملامحي على المرآة بدلاً من رسم الألوان على وجهي.
ومازال السؤال الذي يستعمرني منذ سنين يحوم حول رأسي:
لماذا يربط الذكاء بالشهادة، والجمال بالجسد، والمكانة بالمال، والاحترام بالمنصب؟!
فكلما راودتني الأسئلة وجدت نفسي أتسلل تحت السرير لأخرج جثث الإجابات التي قد ماتت قبل أن يفصح عنها، فأضحك لسخافة تفكيري، كأنني ألمح الإجابات تسير حولي والليل ينتهي والتعب داخلي لا ينتهي.
وفي صباح اليوم الجديد أعيد تمثيل دور أصغر مولود في هذا البيت، الذي لا يتساءل، يبتسم ويطبطب على الجميع، على الرغم من انكسار صورته الداخلية.
كم روح هي تقف أمام المرايا مكسورة! نصفين؟! ثلاثة؟! مئات الانكسارات حتى أصبحت شطرين، شطر يواسي الجميع وشطر يلمل شظايا نفسه بنفسه
وإن أعيد السؤال:
ما حقيقة ربط الأمور بأمور قد لا تعنيها؟ ليست حقيقتها؟
لأجيبك: ستجدها في جيوب الناس من حولك في الشوارع، وعلى كراسي المقاهي، وعند البحر، وفي زوايا المطاعم، حينما ترى الأعين شاردة بين هنا وهناك، وروحاً واقعة بين الحضور والغياب، وابتسامة باهتة لا تعرف للشعور لون كشعور حارس مدرسة تولى حراسة أطفال وهو عقيم بلا أطفال، يبتسم بين حضرة البراءة وصرخات بهجتهم وبين ألم نفسه وصراخ نبض قلبه وقلة حيلته، واقعاً بين يد ممدودة لآخرها تطالبه بالصبر والكثير من الحب من عائلته، وبين هاوية تهوي به إلى قاع اليأس ولكنه مع ذلك يستمر بالابتسامة ويستمر بالعمل ويستمر بالعطاء..
وبين شعور طالب مجتهد، امتياز مع مرتبة الشرف، متفوق، مهذب، لم يخطئ أبداً أو بنظره صغار الأخطاء لا تحسب، أأهمس لك بسر: نعم تخرج منذ ثلاث سنوات ولايزال ينتظر التعيين، أتريد أن تضحك أم تبكي؟!
مستعد أن يقبل بأية وظيفة ولو حارس حديقة ليمارس دوره في الحياة ويدفء برودته ليشعر بأن لروحه ما يستحق الحياة.
فإن رُبطت الأمور بغير حقيقتها.. نكون مازلنا لا نعرف شيئاً من اللا شيء
ففي مشروع الحياة خيالات العمر، وذبحة صدر وفرح أم وبرودة روح وأحشاء تحترق فتصرخ أمام المرآة وتبتسم أمام الملأ تنتظر الفرج بين حافة متعجرفة وحافة قد تعيد إحياء القلب مرة أخرى.