هل يبرد الجرح داخلنا؟

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي  
د. سعاد الشامسي

إنه المطر الذي يُحيي الذكريات يتساقط في الخارج، أحدق من النافذة في الفراغ الذي يُحرر عشُبة نمت من الأرض قليلاً.. وأقول لنفسي هل ستنمو في محاجر قلبي زهرة كهذه؟
نركض في أعمارنا على الزجاج وإذا ما احتجنا أن نعود لحضن أمهاتنا نكتشف أن شيئاً سيبقى خارجه وأنه لن يتسع مهما حدث..
كنت طفلة مشاكسة تكره عمر الطفولة وتتساءل متى سوف أبلغ سن المراهقة ثم زهرة الشباب؟ الآن أنا امرأة مثلكِ ومثلها ومثلهن وأقول "يا للهول ما أثقل هذا العمر" ولا تسعني التنهيدة لأني كنت سريعة في وثبة العمر.
لا، أنا الآن طفلة كبيرة تُعاشر الجروح، يلونها حيناً بقوس قزح مهرجة مع الأطفال الذي سيحلون محلها يوماً ما ولكني أتمنى لهم زماناً أفضل وأحن.
لا، أنا جرح كبير لا تتسع له حقيبة أشيائي، ولا خزانتي ولا درج المكتب الذي أخبئ فيه حكاياتي، جرح يطل على العابرين يلوح بسكين رقيقة، محذراً من العمر، إنها خطة مخادعة عليك ألا تسير عليها، لأنها مُفخخة بالأحلام والآمال. 
كانت الحياة بالنسبة لي كلها مخبأة في جيب أبي المليء بالأموال وبعض من الحلوى وتنهيدات تتزايد بتزايد عدد المسؤوليات وزيادة الأسعار وهو عائد من العمل، والحقائب التي تعود بها أمي من السوق، كان الوقت صديقي، يخبئ لي صباحات ذهبية، وشواطئ مليئة بقصور رملية ورحلات في السيارة في مساءات صيفية.
الحياة الآن هي مهزلة، فخ لا ينتهي من صيدنا من قلوبنا، والحقيقة أنك لن تفهم الحياة حتى تسقط أكتاف الأحبة وأيادي الأصدقاء، وتفوتك الصباحات لأنك مارست الحياة حتى شككت بموعد انتهائها لأنه لم يعد أمامك ما تفعله سوى أن تلهو بجراح قديمة ووجوه قديمة يحملها إطار، لم يقوَ الوقت على حملها. 
نمرر الأيام، بقلب مازال يزخر بالقوة على الرغم من أنك مع كل جرح تظن أنك منتهٍ لا محالة، وأنها الضربة القاضية، ولكنك تمارس رياضة التفاؤل التي ينصحونك بها.
مازال المطر يحن على الشرفة في الخارج، أفكر في أن أدعو أصدقائي على مائدة الحزن التي أعدها كل مساء، أستبدل الفكرة بكتابة الشعر الذي أصنع منه قوالب لحياتي:
وصديق تدعوه على أحزانك    مثلما اعتدت بالأفراح
لكنك غريب         تهرب كوحش الأفلام
الذي ينسل إلى مخبئه    حين يمس الأبطال عاطفته
ويجيء الذين دعوتهم     وتندهش من وجهك الآخر 
يستعر من أحزانه        ويعلو الضحك
وتعود المأساة         وتفاجئ أنها لم تغادرك
لأنك لا تتفق مع أولئك     الذين يضعون جرحهم
على طاولة ما         وسط مقهى مكتظ
في المرة التي دعتني فيها صديقة لنطير من الفرح سوياً، اعترفت لها أني مليئة بالطعنات ولا أقوى على أمر كهذا..
حزننا لا ينتهي، لذلك علينا أن نسايره، لا يغلبنا ولا نغلبه، إنه المنطق والتسليم من دون استسلام.
أما معيشتنا فهي تمرين قاس، وغربتنا تدريب، وبين الاثنين نحب ذواتنا ومن امتلك قلبنا وعقلنا غريباً أصبح فرداً وفرداً من العائلة أصلاً، والقلوب التي تتشكل حتى يجيئها الموت ويقول: حان موعد قطافك.
كلنا جرحى وكلنا مللنا المواساة، كلنا نمرح في جراحنا، لذلك كل طرق الطبطبة والمواساة والتخفيف مغلقة.