«بطل جهز نفسك».. ملخص مكالمة هاتفية تلقاها الطبيب عبدالجواد حسين الأجهوري للانضمام إلى زملائه في مستشفى العزل الصحي ببلطيم، «خلاص جرى اختيارك هتكون فى الفريق وبإذن الله تكونوا عوناً وسنداً لمرضى كورونا»، انتهت المكالمة وبدأ الطبيب في التفكير كيف يستطيع تحضير نفسه وإبلاغ أهله في هذه المدة البسيطة، كيف سيرتب أموره داخل مستشفى كفر الشيخ العام، مكان عمله وفى عيادته، لم ينل التفكير من وقته لحظات، وقرر أن ينضم تلبية لنداء الوطن ولمداواة مرضى الفيروس، أغلق عيادته وجهز حقيبته؛ استعداداً لمهمته الجديدة.
قبل التوجه لمستشفى عزل بلطيم، كان عليه أن يودع زوجته وطفلته ووالدته، بأنه سيتوجه للمستشفى، وسيكون بين صفوف أبطال الجيش الأبيض، معتذراً لهم على اضطراره قضاء عيد الفطر بين المرضى، وليس بينهم: «من بداية الأزمة وكل شغلنا الشاغل، هيبقى دورنا إيه وإزاي هنشارك، ونخدم البلد ونساعد المرضى، توقعت فى أي وقت المشاركة لخدمة مرضانا والوطن».
وأضاف الأجهوري، «كان صعباً عليا القرار في آواخر شهر رمضان، دا معناه إني هقضي العيد فى المستشفى، كان نفسي أقضي أول عيد مع طفلتي حور البالغة من العمر 10 أشهر، مكنش قدامي غير الموافقة، ووقفت شغلي، لأني مؤمن إنها رسالتي إللي ربنا بعتهالي، وواجب محتوم، بلغت زوجتي وأهلي ووالدتي، لكن كانوا قلقانين، البكاء الشديد كان هو الرد عليا، أى حد مكانهم هيبقى كدا، دا فيروس مش معروف، وبرغم أن زوجتي كانت داعماً لي، منذ بداية الأزمة، لكن مكنتش متوقعة إني أقضي العيد فى المستشفى، مش معاهم، بكت وقالتلي هتسيبنا ليه دلوقتي، لكن قدرت أقنعهم وأهديهم، توقيت اختياري للمشاركة صعب، لأن الأعياد ليها طقوس معينة، كان نفسي أشتريى لبنتي ملابس العيد مع مامتها، بس عاوز أقولها إنك في يوم من الأيام هتفتخري بأني أبوكي».
شعور بالرهبة انتاب طبيب الباطنة العامة بمستشفى كفر الشيخ العام، حين وصل لمستشفى العزل ببلطيم، الهدوء الذي يسيطر على المكان، إلا من صافرات سيارات الإسعاف، وصوت المرضى الهادئ داخل الغرف، لكنه سرعان ما تذكر أنه جاء لأداء رسالته، وهى مساعدة المرضى، ورسم البسمة على وجوههم، والتخفيف من معاناتهم ودعمهم.
يقول: «أول ما وصلت حسيت برهبة، رغم إن المكان زى أي مستشفى، لكن الظرف والوضع مختلف، إحنا جايين نحارب عدو خفي، وعلينا دور كبير فى دعم المرضى نفسياً قبل العلاج، بس افتكرت أن ربنا بيختارنا علشان دي رسالتنا، وعلشان المرضى في احتياجنا، كلنا من أطباء لتمريض حتى العمال، كلنا منظومة متكاملة لخدمة مرضى الفيروس، وبدأت أطمن علشان أقدر أخدمهم».
لم يتعود الطبيب الشاب على ارتداء الملابس الواقية، وحينما بدأ فى استلام عمله، شعر كأنها أشياء ثقيلة: «الملابس الواقية دي حاجة تقيلة جداً، وصعبة مع الصيام والحر، لكن اتعودنا عليها خلاص، مش ظاهر من ملامحك أي حاجة، والمرضى لازم يتعرفوا علينا أول ما بنروح، كنت بحاول أضحك بصوت عالٍ، علشان يتعودوا على الصوت، بنحاول نرسم البسمة على وجوه المرضى، لأننا مؤمنون أن أصعب ما يواجهه مريض كورونا هو الألم النفسي، لا تواجهنا مشاكل قد المشاكل النفسية، علشان كدا محتاجين دعمهم، كلنا معرضون للإصابة، لأنه مش اختياري، محتاحين نظهر للعالم دعمنا للمصابين».
داخل جدران المستشفى تنتاب الطبيب الشاب مشاعر مختلطة، بين الفرحة بسلبية نتائج البعض، والدموع لوفاة حالات، حتى ولو لم يعرفهم من قبل، يقف وزملاؤه صامدين في مواجهة الفيروس الغامض، يحاول التخفيف عن آلامهم، والشد من أزرهم، متسلحاً بدعوات والدته وزوجته، خلال الدقائق البسيطة التي يتحدث إليهما فيها، ودعوات المرضى الذين يقضي أوقاته معهم.
ويؤكد الطبيب: «ببقى فرحان لما مريض تتحول نتيجة تحاليله لسلبية، احنا بندعم المرضى، وينخفف عنهم، كفاية إننا بنقضى وقتنا كله لمدة 14يوماً معاهم، أصبحوا أهالينا وأخواتنا، وبقضي الوقت مع زمايلي، بنقعد نفكر ونتمنى أن ينتهي الوباء، بندعم بعض، وبنحاول نشد على إيد التمريض إللي بيعتبر خط الدفاع الأول فعلاً، كلنا بنحس إننا أسرة واحدة خلاص، مصيرنا واحد».
خلف الملابس الواقية، يحاول الطبيب إخفاء دموعه التي تتساقط منه حين يمر بمواقف صعبة داخل المستشفى، لكنه يتعمد عدم إخفاء ابتساماته حال وجود ما يستدعي الفرح: «الملابس دي بتخفي دموعنا، بنمر بمواقف صعبة وبنبكي ومش بنظهر للمرضى علشان نفسيتهم، أصعب مواقف، اختلاط المشاعر، مُطالب فى لحظة معينة تضحك وتبقى فى قمة الفرح، وأنت بتبلغ مريض بسلبية نتيجته وإنه خلاص هيخرج، وفي لحظة بعدها بدقائق تبكي لوفاة مريض بين أيديك، عمري ما هنسى فرحة مريض بكورونا وأنه هيروح وبكي فرحاً وسجد لله شكراً، وعمري ما هنسى حب واحتواء أسرة كلها مُصابة، الحب إللي بشوفه في عيون الأمهات والآباء تجاه أولادهم، إلحاحهم بالدعوات فى رمضان وقضاؤهم اليوم ما بين العلاج والصلاة وقراءة القرآن، والطفل علي، 13 سنة، قاعد لوحده وراضي بقضاء الله، علي كان كويس مكنش بيعاني من أي أعراض، كنت بدعمه نفسياً أكتر من العلاج وهو كان بيدعمني بالطاقة الإيجابية».
موقف صعب جعل عبدالجواد يبكي: «أصعب المواقف، كانت وفاة 4 مرضى كورونا فى يوم واحد، وصلينا عليهم الجنازة، لم أتمالك نفسي من البكاء، والدموع نزلت دون أن أدري، كان بينهم شاب 21 سنة، كان بيعاني من سرطان فى العظام، بعد حجزه بـ5 أيام، بنمر بمواقف صعبة كتير، وعلينا التحمل علشان خاطر المرضى، علشان كدا بنتمنى الوباء ينتهي والناس ترجع لطبيعتها وحياتها، والأهم إننا ندعمهم منحسسهمش إن المرض ده وصمة عار، في ناس كانت بتخاف تقول إنها مرضة بالفيروس».