تُجسّد الحارات القديمة ملامح الحياة في حقبة زمنيّة معيّنة، وتضمّ مباني محمّلة بقصص وحكايات وعادات اجتماعيّة باتت شبه منسيّة في زمننا الحاضر، حتّى أصبح من يحنّ لتلك الأيّام يزور البيوت القديمة فيتنفّس عبق الماضي ويسمع حكاياته وأسراره.
تصوير | عمر النهدي @nahdiomar
"سيدتي" تجول في أرجاء البلدة التاريخيّة بجدة، لتسرد بعضًا من تاريخ حياة وذكريات "أهل أول الطيبين". المحطّة الأولى في بيت نصيف، التحفة المعماريّة التي سكنها الملوك والأمراء، فبيت باعشن منارة العلم والثقافة، وبيت المتبولي ذي الطابع الحجازي الأصيل، وبيت زينل "أبو الفقراء"، من دون الإغفال عن بيت الشربتلي الذي سكنته البعثة المصرية في زمن مضى، وغيره من البيوت الحجازية التي ترجع إلى عوائل لها قيمة تاريخية ومكانة اجتماعيّة حتّى يومنا الحاضر.
بيت نصيف تحفة معماريّة
يحتفظ بيت نصيف بالأصالة، وهو يمثّل أحد المعالم الأثريّة في قلب جدة، ويعود تاريخ إنشائه إلى سنة 1289ه. على يد الشيخ عمر أفندي نصيف، أحد أعيان آل نصيف، وقد استغرق بناؤه 4 سنوات. ويُعبّر طراز بيت نصيف المعماري عن حقبة تاريخيّة شاهدة على تطوّر فنّ العمارة القديم، بجدة. وترجع أهميّة البيت إلى نزول الملوك والأمراء والعلماء والوزراء به، فقد أقام فيه الملك المؤسّس عبدالعزيز آل سعود الراحل لعشر سنوات.
يظهر حجر المنقب الجيري مادة أساسيّة في البناء، مع الإشارة إلى أنّ الحجر المذكور هو ذلك الجيري المرجاني الذي يُجلب من شاطئ البحر الأحمر، ويحفظ المنزل من البرودة والحرارة، إذ يمتصّ رطوبة الجوّ. ويستخدَم مع بياض المصيص الجيري ليمنع تآكل الحجر الجيري جرّاء الرطوبة. وقد استورد خشب خاص من الهند وإندونيسيا لبناء الأسقف، والرواشين.
يمتدّ بيت نصيف على مساحة تسعمئة متر، ويضمّ أربعين غرفة؛ الدور الأول خاصّ باستقبال الضيوف، والثاني لنوم الضيوف، والثالث للأسرة، أمّا الرابع ففيه فجوات جدارية تسمّى بـ ملقف الهواء"، ودورها تلطيف المناخ، علمًا أن الدور الرابع مفضّل للأسرة في الصيف.
كان روعي في بيت نصيف أن تكون السلالم مبنيّة بطريقة تسمح بصعود الأدوار الأربعة، بسهولة.
مميّزات البيت هي الراوشين الخشب، التي تعدّ من مفردات العمارة الجماليّة في تغطية النوافذ والفتحات الخارجية.
وفق المؤرّخ محمد علي مغربي، في كتاب أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة، شهد بيت نصيف على توقيع الملك عبد العزيز اتفاقيات مع السفراء ومندوبي البلدان، كما أخذ فيه الملك عبد العزيز البيعة على العلماء والأعيان من أهل الحجاز، وكان يسكن في البيت كلّما جاء جدة، وقد استمرّ على ذلك لأكثر من عشر سنوات، حتّى شيّد قصره الخاص في جدة المسمى حاليًّا قصر خزام.
تابعوا المزيد :أماكن سياحية في جدة
بيت باعشن ملتقى علمي ثقافي
كان بناه الشيخ محمد صالح بن علي بن عبد الله باعشن في سنة 1273هـ. ليكون منزلاً لعائلته، ولكنّه تحوّل إلى ملتقى تعقد الأمسيات فيه، وتُدار الحوارات بين كبار أعيان جدة، وتحت رواشينه الخشب ينصب مركز العمدة.
ينقسم بيت باعشن إلى قسمين، هما: البيت الغربي الشمالي الذي يتجاوز عمره 150 سنة، في حين أن البيت القبلي الشمالي يتجاوز عمره 220 سنة، ويحظى كلاهما بتراث عريق من صور ومخطوطات وصناعات يدويّة جميلة.
الواجهة الرئيسة للمنزل تواجه الشارع الرئيس من الشرق، مع حضور مجلس في هذا الجانب المطلّ على الشارع، ومجلس آخر في الجهة الشماليّة، أمّا الواجهة الشرقيّة فتغطيها الرواشين الصادّة الغبار والرمال، التي تحملها الرياح القادمة من الشمال الشرقي. ويوجد ارتداد في الجدار الخارجي في القطاع الأوسط من المبنى فوق المدخل يشكل شرفة كبيرة للمبيت، ولزيادة حركة الهواء خلال المنزل ممّا يساعد في تبريده بطريقة التبخير.
وفي الدور الأرضي من المنزل، تتوزّع صالة للاستقبال وغرف للجلوس ومستودع التخزين، مع فناء مفتوح في مؤخرة المنزل، الذي يحتوي على مدخلين. والأدوار من الثاني إلى الرابع متكررة، لكن أُدخل بعض التعديلات على الدور الثالث منذ عهد قريب.
بيت المتبولي للحجّاج
شيّد بيت المتبولي قبل أكثر من أربعمئة سنة، في المنطقة التاريخيّة بسوق العلوي، وهو يمتاز بالطابع الحجازي القديم في العمران. وكان بيت المتبولي يستقبل الحجّاج، إذ كان كان عمل أهل البيت هو وكلاء الحجّ وتجارة "الحبابة" أي الحبوب.
وكانت تقام في بيت المتبولي احتفالات الأعراس التي يمتدّ كل منها حتّى أسبوع، إذ تزفّ العروس هناك، لسبعة ليال، في أجواء طربية رائعة. كما كان يجتمع فيه أهل الحي وعائلة المتبولي، في شهر رمضان والأعياد.
يتكوّن البيت من أربعة أدوار ومدخلين ومقعدين؛ يطلّ المدخل الرئيس على سوق العلوي. وقد ساعد استخدام الأخشاب المزخرفة الواضحة في حائط البيت من الداخل بشكل كبير في تحريك دخول الهواء لتلطيف حرارة الجوّ. وللبيت ديوان خاصّ باستقبال كبار الشخصيات، من أعيان البلد والوفود الزائرة مدينة جدة.
في الدور الثاني، يقبع بيت الجدة، مع ملاحظة مقعد خاص بها ومقعد آخر لحريم الحارة، وهناك غرفة نومها، وإلى جانبها غرفة المؤن.
وبمبادرة من أبناء المتبولي، كان رُمّم البيت للحفاظ على إرث عائلة المتبولي، مع تحويل المكان إلى متحف تراثي يضمّ العديد من الملابس والمفروشات والأثاث القديم المزخرف بنقوش تقليديّة.
"بيت زينل" أبو الفقراء
يعود بيت زينل الواقع في مدخل جدة التاريخية إلى الحاج زينل علي رضا (زينل اختصار لكلمتي زين العابدين)، الذي كان يُلقّب بـ "أبو الفقراء" لعنايته بهم، وتبرّعه لهم. وقد عُرف المكان بـ"ببيت هولندا" سابقًا لأنّ السفارة الهولنديّة اختارته مقرًّا لسفارتها.
عائلة زينل هي من العائلات الشهيرة في السعودية والخليج العربي في مضمار التجارة، ويمتدّ تاريخها إلى ما يقرب من مئة وستّين سنة في منطقة الحجاز، بخاصّة في جدة، ومنهم محمد علي زينل مؤسّس الفلاح سنة 1905م. المدرسة التي تعدّ أول مدرسة نظامية في السعودية.
وبُني البيت من الخرسانة المسلّحة، وله جمالياته الخاصة التي عُرف بها ضمن البيوت المميّزة في جدة القديمة، علمًا أن واجهته الرئيسة عبارة عن نوافذ وشرفات من الخشب، محفورة بنقوش جميلة. وهو يعد أول بيت شيد من الخرسانة المسلّحة.
يتألف البيت الذي يتخذ الشكل المستطيل أو هو أقرب إلى المربع من دورين من الخرسانة المسلحة في السقف والأعمدة، إضافة إلى استخدام الحجر المنقبي الذي ساد حضوره في عمارات جدة. وفيه مجموعة من الغرف، يتوسّطه درج يقابل مدخله الذي يتقدم البيت على شكل شرفة. وتزين الباب الرئيس نقوش حجرية جميلة.
تابعوا المزيد:لمحبي المغامرات.. أفضل 3 منتجعات في العُلا
بيوت معروفة
تشمل البيوت المعروفة في جدة التاريخيّة:
| بيت الجمجوم: أحد بيوت جدة التاريخيّة، ويبلغ عمره نحو 200 سنة.
| بيت قابل: يملكه سليمان قابل، صاحب شارع قابل وسوق شهيرة بجدة. يرجع تاريخه إلى حوالي 200 سنة خلت.
| بيت سلوم: بني سنة 1301هـ. وهو يمتدّ على مساحة 497 مترًا مربّعًا، مع أربعة أدوار، وفيه المقعد الحجازي.
| بيت نور ولي: يزيد عمره على 150 سنة، ولا تزال رواشينه محتفظة برونقها وألوانها، ويتكون من 4 أدوار و15 غرفة كبيرة.
| بيت باناجة: من البيوت التاريخيّة الشهيرة؛ كان يتخذه الملك المؤسّس مجلسًا، ويستقبل المواطنين فيه، ويعقد اللقاءات، وصدرت فيه قرارات الدولة الهامّة.
| بيت بترجي: كان أول مقرّ للسفارة الأميركيّة بجدة قبل قرابة 80 سنة، وهو يتكون من 3 طبقات، ويحتوي على العديد من الحجرات والمقاعد.
الحجر والخشب والرواشين...
كان أهالي جدة يبنون بيوتهم من الحجر المنقبي، الذي يستخرجونه من الرصيف الصخري المرجاني الضحل لساحل البحر الأحمر، وتحديدًا من موقعين: شمال بحيرة الأربعين، وعند شاطئ الرويس، ثمّ يعدّلونه بالآلات اليدويّة ليوضع في مواضع تناسب حجمه. وكان الطين الأسود اللزج المستخرج من قاع بحيرة الأربعين هو البديل عن الأسمنت. أمّا الأخشاب فكانت ترد من المناطق المجاورة كوادي فاطمة، أو يستوردونها من الخارج عبر الميناء.
من مواد البناء الأخرى، الطين الذي كان مصدره بحر الطين "الأربعين" في تثبيت المنقبة.
تتلخّص طريقة البناء في رصّ الأحجار بـمداميك، تفصل بينها قواطع من الخشب. ولناحية التزويق، تمتاز بيوت جدة القديمة، بحضور الرواشين كبيرة الحجم، مع استخدام الأخشاب المزخرفة في الحوائط، ما يساعد في تحريك الهواء وانتشاره في أرجاء الدار وإلقاء الظلال على جدران البيت لتلطيف الحرارة. وكانت البيوت تبنى متجاورة، وواجهاتها متكسرة لإلقاء الظلال على بعضها.
تابعوا المزيد: أشهر المعالم السياحية في السعودية