يعد الفن والادب أحد منتجات التواصل الإبداعى بين ذوات إنسانية تحكمها علاقات تفاعلية، وقد وصل هذا التواصل لقمته مطلع القرن التاسع عشر والذى صادف زخما مدهشا فى تنوع المدارس الإبداعية فى الصياغات والاساليب، والتى تراوحت بين الملامسة السطحية والتجربة الذاتية المعمقة للمبدع سواء أكان أديبا ملهما أم فنانا مبدعا.
وما بين التجريب المادي المحض، و الإسقاط المفهومي، والاستنساخ الشكلي للمضمون الفكري، خرجت العديد من المدارس والمذاهب إما تنافى او تكافئ أو تصارع بعضها بعضا فى زمن المذاهب المتعاصرة، المتوافقة في الاتجاه والمتعارضة فى الأسلوب، زمن اشتبكت فيه الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية بالفنية والفكرية ..
الموضوعية تفرض حضورها على أنقاض التعبيرية
ظهرت الحركة الموضوعية في زخم ألمانيا ما بين الحربين، وفرضت حضورها على أنقاض التعبيرية، رغم أنها استفادت من مدارس أخرى كالدادائية، لاسيما وعي دعاتها لضرورة تحمل المسؤولية السياسية وأداء واجبهم تجاه الطبقة البورجوازية التي قادت البلاد إلى الحرب.
يقول أ. د. نعيم عبد النظير أستاذ النقد الأدبي والبلاغة: الموضوعية هي سمة أسلوبية - تُستخدم استراتيجيًا وتاريخيًا للتغيير. ومع تزايد موجات البحث في الدراسات الثقافية والتاريخية جنح كثير من المبدعين للموضوعية على أنهم لم يولوا اهتمامًا كبيرًا لخطوط الاتصال بين الفن و العلوم الطبيعية. لافتا أن "الموضوعية" والتى تم وصفها بـ "الموضوعية الجديدة" خرجت للنور من برلين مطلع القرن الماضى عقب الحرب العالمية الأولى لتنتشر فى أوروبا بأكملها.
مميزات الموضوعية كحركة إبداعية
لم تكن الموضوعية الجديدة " Neue Sachlichkeit "حركة صارمة بمعنى وجود بيان واضح أو مجموعة من القواعد يلتزم بها المبدعون سواء أدباء أو نقاد أو موسيقيون أو حتى تشكيليون، وإنما عَرّف المبدعون الذين ينجذبون نحو هذه الجمالية أنفسهم من خلال رفض موضوعات التعبيرية - الرومانسية والخيال والذاتية والعاطفة الخام والاندفاع وركزوا بدلاً من ذلك على الدقة والتعمد وتصوير الواقع والواقعي.
أهم فناني ومبدعى الموضوعية
أوضح عبد النظير أن الحركة ضمت فنانين ومثقفين أمثال أوتّو ديكس والذى زاوج فى أعماله بين الموضوعية والتعبيرية، وماكس بيكمان، وجورج غروز، ومن الادباء ألفرد دوبلن وإريك ماريا ريمارك والأخوة هاينريش وتوماس مان، والذين اتفقوا على توجيه نقد حاد للمجتمع ونعتوه بالنفاق، والتواطؤ مع بورجوازية جشعة. كما عبروا عن رفضهم الالتزام الشخصي والتطلعات الرومانسية للتعبيريين، ودعوا إلى نبذ المثالية الرومانسية فسعوا جاهدين لتصوير ما رأوه مفقودا فى الأعمال التعبيرية.
الواقعية (Realism) أم مدارس الفن الحديث
و عن الواقعية يقول أ. د. نعيم عبد النظير ظهرت كأحد آثار ما قبل الثورة الصناعية، حيث تعد الواقعية (Realism) أم مدارس الفن الحديث لأنها رفضت الأشكال التقليدية للفنون و الآداب، فاستبدلت النزعات الخيالية و الرسوم الدينية و الأسطورية بمشاهد من الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.
أشهر مبدعى الواقعية
وعن أهم مميزات المدرسة الواقعية يقول أ. د. نعيم عبد النظير: تُعطي اهتمامًا كبيرًا لوصفِ التفاصيل مهما كانت، مثل وصف الأصوات والحركات والألوان، حيث تنطلق هذه المدرسة من الواقع في الطبيعة، ومن واقع المجتمع الذي يعيشه الإنسان، وتصوّر الصراعاتِ القائمةَ مع ذلك الواقع، ويعتمدُ أصحاب الواقعيّة على تحليل النص الأدبي، بعيدًا عن أفكار الكاتب وآرائه وتوجُّهاته ومعتقداته.
من مشاهير الواقعية من الأدباء تولستوي، وغوركي، ودستويفسكي، وتشيخوف في روسيا، وبلزاك، زولا، موباسان، فلوبير في فرنسا، ومن التشكيليين الفرنسي غوستاف كوربي، و جان فرنسوا ميلي وهو أحد أكثر رواد الواقعية شهرة، كذلك إدوارد ماني ،والإيطالى كارفاجيو.
وعن الفرق بين المدرسة الواقعية و الموضوعية
يقول عبد النظير الموضوعية هي المعرفة المتعلقة بالمظهر الخارجي للوجود من قبل الذات، تدرك عن طريق الحواس وتخضع للتجربة، وهي مستقلة عن ارادة اومعرفة او ميول الانسان لها. اي تشبه القوانين الفيزيائية المرتبطة بطبيعة المادة في الكون فلا تتأثر بمعرفة اوعدم معرفة الانسان لها. بينما الواقعية هى المعرفة التي تستقي اوصافها من أحداث واقعية ينقلها المبدع بصدق دون تصنع أو مبالغة.
تشترك الموضوعية والواقعية فى أنهما من الحركات اللاذتية الفكر حيث تصف الموضوعية الاشياء على ماهيتها، وتؤمن بحقائق قائمة خارج الواقع المادي الملموس، بينما الواقعية تصور الواقع تصويرًا موضوعيًا دقيقًا بعيدًا كل البعد عن الانطباعات الذاتية، حيث اللحظة الإبداعية سواء مكتبوبة أو معزوفة أو حتى تشكيلية تكون أشبه بصورة فوتوغرافية تم التقاطها فى لحظة فريدة تخلد الواقع بكل تفاصيله.