افتتح «متحف هنري ب ب» أبوابه أخيراً، لتسليط الضوء على البيوت التراثيّة التي تندثر، وتأخذ معها جزءًا من تاريخ المدينة وأحيائها، وكثيراً من مكوّنات هويّة العمارة فيها. يرجع حرفا الباء في اسم المتحف إلى مدينتَي بيروت المستلّة منها اللقى الثمينة، والبترون (شمال لبنان) حيث المكان المفتوح للعامّة.
ُتبادل بيروت من يهواها الحبّ؛ هي تمسك بيده، وتدعوه إلى اكتشاف حقيقتها المختبئة خلف جدران عالية ومتداعية. الحقيقة مفادها أنّ خلف المباني القديمة المتهالكة التي لا تجذب أحداً، هناك بيوت فسيحة ومنوّرة، فيها كلّ الأبّهة وترف العيش والتاريخ وأسلوب الحياة المعاصر. حين دخل هنري لوسيان أحد هذه البيوت الخاصّة بأحد معارفه، ذهل لدى النظر إلى الأعلى صوب السقف العالي المرسوم، وإلى الأسفل صوب الأرضيّات؛ وحين استقرّت عيناه، خدّره الهواء الذي يسكن جنبات المسكن، ولو أنّ المناخ كان حارّاً في الخارج، فكحّلهما بالقناطر والأعمدة الرخام والجدران الشبيهة باللوحات التشكيليّة، من دون أن يفارقه الإحساس بهويّة المكان الصارخة التي لا تخطئها عين. هو تمنّى أن يكون له ما يشبه هذا البيت، لكن «العين بصيرة واليد قصيرة» كما يُقال، لأنّ عقارات مماثلة تسعّر بملايين الدولارات، لذا غالباً ما تنقلب وظيفتها من إيواء الجيل الثاني والثالث المتحدّر من سليلة من عمّرها أو تملّكها، إلى مشاريع استثماريّة خاصّة بالضيافة، أو تُهدم لتستبدل بالأبراج العالية التي تناطح السحاب. في معلومات غير رسمّية، يُقال إنّه لم يبق من هذه البيوت راهناً سوى ستمئة بيتاً موزّعة بين أحياء العاصمة اللبنانيّة القديمة.
مجد ضائع
تمسّك هنري لوسيان بالإحساس الذي انتابه عندما دخل ذلك البيت، ووعد بيروت أنه سيسترجع مجد العمارة الضائع في مكان يكلّله قرميد، ويعيد إحياء التراث. أمسى كلّما يمرّ بجانب مبنى قديم ويشهد على ورشة هدم، يعتصر الحزن قلبه، حتّى عرف أن كلّ الإكسسوارات في داخل المباني التي تتغيّر وظيفتها يُعرض للبيع، فبدأ رحلة جمع كلّ عنصر يصمّمها، من الأعمدة الرخام والقناطر والبلاط والخشب، وكلّ ما يؤثّثها، وذلك من مجموع مئة بيت.
لم يكن هنري لوسيان قادراً على مصارعة الرأسمال المتوحش الذي يطرد أولاد المدينة إلى خارجها، فارتضى أن يقع بيته في شمال لبنان، لكنّه لم يتساهل في أمر جعل الأخير مُعبّراً عن الأصالة والذوق البيروتيين.
تابعوا المزيد: أجمل تصميمات طاولات غرف المعيشة
معلّم العمار
من بيروت إلى بلدة كوبّا في البترون، تستغرق الرحلة نحو ساعة، ليصل الزائر المتحف ذا القرميد، بعد أن يمرّ بأراضٍ فيها غرسات الزيتون والخيم الزراعيّة البلاستيكيّة، وإذ به يدخل إلى بناء من طبقتين، الأولى منهما تحضن المتحف، والثانية السفليّة سكن المالك.
عن تفاصيل البناء، يقول هنري لوسيان لـ «سيدتي» إن «المتحف افتتح أبوابه أخيراً، لكنّ ورشة العمارة استهلّت في سنة 2009، والفراغ من الأعمال تحقّق في سنة 2013. مذّاك، قمت بالرسم على الحيطان والأسقف، حتّى تحاكي حيطان بيوت بيروت». ويضيف: «لست رسّاماً أو مهندس عمارة أو مصمّماً، لكنّي مارست كلّ الأعمال المذكورة لإعلاء المتحف». ويردف قائلاً: «كنت أمضي ساعات طويلة في مراقبة العمّال يفكّون الأعمدة والقناطر والبلاط من المباني التراثيّة، وقد اتبعت المهارات التي اكتسبتها نظريّاً في رفع بيتي والمتحف. علماً أنّه في بيروت القديمة لم يكن هناك وجود للمعماري، بل لمعلّم العمار، أيّ الحرفي الذي كان يقوم بهذه الأعمال»
بيت حديث
يشدّد هنري أن المتحف ليس مرمّماً أو تراثيّاً، بخلاف ما قد يعتقده البعض، بل هو بيت حديث مبنيّ باستخدام الأسمنت، وليس الحجر الرملي، على غرار البيت الأصيل. بيد أنّه يُعيد الاعتبار إلى الأخير عن طريق التصميم والإكسسوارات واللقى الأثريّة، محتوياتِه، من منازل أمست أثراً بعد عين... وبالتالي هو يشجّع أيّاً كان على عدم التفريط بالبناء التراثي إنْ وصلت إليه ملكيته، مهما كانت حالته رثّة، أو الاستلهام من متحفه، حتى يجعل بيته المستقبلي شبيهاً به، ولا سيّما الجيل الجديد.
تجارة الحرير
البيت البيروتي الأصيل الذي لا يخلو من الرقّة شهد أعمال هدم، حسب هنري لوسيان، منذ قديم الزمان، شارحاً أنّ تواريخ البيوت التراثيّة تمتدّ من 1860 حتّى 1910 زمن العثمانيين، وقد عرفت الهدّ في ثلاثينيّات القرن الماضي وأربعينيّاته، حتّى ترتفع العمارات المودرن عديدة الطبقات والمتأثّرة بالنمط الفرنسي مكانها زمن الانتداب. ومعلوم حبّ اللبنانيين للحداثة الغربيّة. لكن، يستدرك الفنّان الشغوف بالمدينة، قائلاً: «البيوت التراثيّة أيضاً كانت ثمرة البورجوازية التي اغتنت من التجارة والحرير، وكانت تستبدل بالبيوت العقد المعتمة التي تغلق نوافذها بالخشب».
القناطر الثلاث
فور دخول متحف هنري لوسيان تحار العينان أين تحطّان؛ لكن سرعان ما تسرقهما القناطر، التي يتكرّر حضورها في البهو الذي تتوسّطه الكنبة. عن القناطر ذات الزخارف، يقول هنري لوسيان إنها مستلهمة من إيطاليا، وتحديداً من الطراز القوطي، لكن ما جعلها بيروتيّة هو أنّها عبارة عن ثلاث قناطر كما في كلّ بيت تراثي. وكانت هذه القناطر تأتي مرفأ بيروت بوساطة البواخر المقبلة من إيطاليا. مرفأ بيروت، الذي كان يصفه أمبراطور ألمانيا بـ «درّة تاج بني عثمان». كلّ من كان ينوي تعمير بيت يقصد المرفأ لشرائها. وكذا الأمر في شأن الرسّامين الإيطاليين الذين كانوا يحضرون إلى ولاية بيروت، ويرسمون على الجدران، والحرفيين الذي كانوا يثبتون الأعمدة. البيت البيروتي مضياف، يشرح الأمر كثرة الأماكن الخاصّة بالجلوس فيه، مع ضمّ ثلاث غرف نوم، إحداها للضيوف والثانية منها للأولاد والثالثة هي الرئيسة وقاعة للأكل ومطبخ حيث النمليّة، التي كانت تحفظ الطعام، وشرفات تحلو الصباحات فيها. لناحية الأثاث والإكسسوارات، هي إنجليزيّة وفرنسيّة، وتنتمي إلى حقبات وأساليب مختلفة، منها الآرت ديكو. ذوق هنري لوسيان الرفيع نسّقها، بصورة جذّابة، على الرغم من وفرتها، لكن تتقدّمها العمارة، لا سيّما الأرضيات التي تحملّ كل بلاطة منها، في جزئها الخلفي دمغة بيروت والأعمدة الرخام وذلك النور الطبيعي الذي يتسلّل من الشرفات والنوافذ، ويمتلك تأثيراً نفسيّاً إيجابيّاً على الأفراد، ويصل كلّ بقعة من المتحف. قالت بيروت لهنري لوسيان: «أنا أحبّك يا ابني، وسأمنحك كلّ الإكسسوارات الباقية من مجدي الضائع، خذني معك لأعيش في البترون»، فسمع الابن المطيع الكلام، وجعل متحفه مفتوحاً للعامّة. حكاية هنري لوسيان توضّح فكرة امتصاص المدن طباع أبنائها المتناقضة؛ أحدهم يعمّر والآخر يهدم والثالث يُرمّم والرابع لا يبالي والخامس يظلّ باكياً على الزمن الجميل معدوم الحيلة... لكنّها تعجن هذه الصفات، وتطلّ متدثّرة في حلّة تدفع إلى الإبهار. وكذا هي بيروت.
تابعوا المزيد: اللون الأبيض في ديكور غرف النوم