تَمرُ السنون، ويَمُر معها العُمر هارِباً مِن واقعهِ، واقِع نعيشُ فيهِ وسط محافِل الخِداع والتزييف، ترى الناس كزهور الأُرجوان، وحقيقَتهم تمتلئ بمرارة العلقم، في عالمٍ حافِل بالصور والمظاهر الجميلة، وتغريدات السعادة، يُصيبنا التيه في طُرُقٍ مُلتوية، ما بين حقائق مُزيفة مغشوشة، تتوارى الحقيقة خلف جبالٍ مِن الغرور والانغماس في مصادفَة وجودنا في الحياة، فنتجاهل تِلكَ الفُرصة ونسعى في الأرض كَذِباً وخِداعاً، تختل موازين الإنسانية والغيرة، وأصبحت الجينات مُضطربة، مُصابة بالإنحناءات والتهشُم، بلا حياء بلا غيرة بلا مبدأ، يتنازل أحدهم عن ركائزهِ شيئا فشيء، وتوهن أضلُعهِ فلا يطيقُ نِزالاً، يبدأ في عرض ضميره للبيع، بثمنٍ بخس، فتَجِدهُ يستعرض تفاصيل حياتهِ أمام الجَميع، وكأنهُ يستمتع برؤية الناظرين لحياتِهِ ليكبر ويشتهر كعالم متخصص في عالم الفضاء ولكن ليس الفضاء السماوي بل فضاء الخداع والتمثيل، وياليت نظراتهم تتفحصهُ وحدهُ، فقد كانت خصوصيته هي إحدى السلع المعروضة، كصورةٍ زينتها أيدي فنان، كأفلام الفيديو، وعيون فُرِّغَت مِن كُل تقاليدنا العربية، فصارت مجهولة الهوية، غريبة لا تَدُل على عنوان صاحبها.
لقد اعتاد "هو" و"هي" دوماً على عرض أحداث حياتهم، عبر تواصل اجتماعي عديم القيمة، حينما يكون معرضاً ومِنظاراً لتفاصيل، ونافِذةً على كُل مستور، تتزاحم التعليقات على النقل الحي من صورهم وطريقة حديثهم، فلم تَعُد للبيوت مِن أسرار، فالمعرض يكتظُ بالتفاصيل الدقيقة الكثيرة معروضة للجميع من دون مُقابل، لَكِن أحداً لم يعلم أن كُل تِلك اللوحات الإلكترونية المعروضة هي جُزء مِن لوحةٍ أكبر اسمها "واقع الحياة".
ذَلِك الواقع الذي لطالما كان بطبيعتهِ يُنهك الناس تعباً وتفكيراً في أمور البقاء والاستمرار، فـوجود المشاكل جُزء لا يتجزأ مِن واقِعنا، والخِلاف هو سُنة الوجود، لَكِن دائماً يُظهِر الناس ما يرغبون في إظهارهِ فقط، فتتفتح أزهار البنفسِج حولنا في كُل مكان، وكأننا في جنةِ الخُلد سالمين فرحيين بها، لا يَغتال أمننا قلق أو ضيق، والحقيقة أن بين تِلكَ اللحظات السعيدة هُناك دهر مِن الأزمات والدموع.
وما يُزيد الأمر سوءاً أن هُناك من لديه القابلية لأن يُخدع، فيرى سراباً، ضحكات وأحضان، وكلمات مِن العِشق المعسول، فتُغريه مفاتِن الحياة وجمالِها، إذا ما أحَبَ وتعلق بقلب شريكٍ آخر، من دون أن يعلم بأن للعسل مرارة تُوازِن حلاوته، وأن لِلعلاقاتِ وجه آخر لا يراه، فما يُبديه الناس دائماً هو وجه القمر المُضيء، أما عن الوجه المُظلم فلا يعلم به إلا الله، يتوارى في ثيابٍ مِن المظاهر الخادِعة، هكذا مات الحياء، وتجمد الخجل عن عملهِ، وعَمّت الفوضى في المكان على أن ينشأ الجيل الجديد على مبدأ العام لا الخاص.
فإذا رأيت رَجُلاً وامرأة يتفاخران يوماً برِحلَتِهِما القادمة إلى جِبال الألُب، فاعلم أن أحدَهُما قرر التخلص مِن الآخر على طريقتهِ الرومانسية!