ما إن يهل موسم الحج، حتى ينتعش موسم فناني الحج في قرى وصعيد مصر، وكثير من أحيائها القديمة والشعبية، فيما يعرف بجرافيتي الحج، حيث يظهر كثير من التجارب الفنية الفريدة، والتيارات الإبداعية النافرة، والتي تشق عباب جدران المباني، وتقتحم حوائط المنازل، لتتزاحم بدون ترتيب، وتتشابك دون قواعد فنية، ومعضلات أكاديمية تشكيلية، فترصد الرحلة المقدسة بأدق تفاصيلها، بدءاً من خروج الحاج من منزله ووداع أهله وجيرانه، وحتى وصوله لأداء المناسك، وعند عودته سالماً غانماً مقبولاً حجه مغفوراً ذنبه مرة أخرى. وتفاصيل استقبال المهنئين والمباركين...
لجرافيتي الحج جذور فرعونية
على الرغم من أن الكثيرين لا يعرفون تاريخاً محدداً لبداية جرافيتي الحج، إلا أن الرسوم الجدارية الفطرية ذات الطابع المؤقت بدأت منذ العصر الفرعوني، وظلت بفطريتها وعدم ديمومتها لتسجل مشاهد من الحياة اليومية الاعتيادية، أو قصص حياتية أو خيالية لأصحابها، أو لتضيء بعض المناسبات شديدة الخصوصية لعامة الشعب، وظلت جنباً إلى جنب مع الجداريات الفرعونية العملاقة، والتي كانت تصور الحياة والشخصيات المهمة بالعصر الفرعوني، ويقوم عليها فنانون متخصصون؛ لتظل خالدة باقية آلاف السنين..
تابعوا المزيد: عيد الأضحى فرصة لكي يصبح طفلك اجتماعياً
النوبة وصعيد مصر يحتفظان بطقوس فن الجرافيتي الفطري
ظل الجنوب المصري، خاصة الصعيد والنوبة، محافظاً على فن الجرافيتي، لتظهر خصوصيته عبر تفاصيل وموتيفات ومجموعات لونية معبرة عن البيئة، ولا تجدها إلا في الجنوب؛ لتنتقل في خجل إلى الأحياء الشعبية والقديمة المصرية، حيث نزح إليها النوبيون وأهل الصعيد في هجرة داخلية، محملين بفنونهم وإرهاصاتهم وإبداعاتهم الفطرية؛ بحثاً عن مورد رزق.
جرافيتي الحج يزدهر في العصور الإسلامية
يؤكد أ. نبيل إسكندر عبد الملاك، باحث بكلية الآثار، أن جرافيتي الحج ازدهر بقوة في العصور الإسلامية، خاصة في العصرين العثماني والمملوكي، على طول مصر وعرضها، حيث كانت تستخدم خامات بسيطة في الرسم والتلوين، فلم يسعَ الفنانون الفطريون لديمومة جدارياتهم، فهم يتكسبون منها قوت يومهم، وعندما تبلى أو تختفي؛ سيقوم أصحاب المكان باستدعائهم مرة أخرى لإعادة رسمها، حيث يعمل أكثر فناني جرافيتي الحج بأعمال أخرى، وجرافيتي الحج ما هو إلا وسيلة لتحسين دخلهم بحرفة إضافية موسمية تمتد لثلاثة أسابيع فقط في العام.
تابعوا المزيد: أنواع الفن الإسلامي
كيف يُرسم جرافيتي الحج؟
يبدأ رسم الجرافيتي بتحضير الحائط بدهانه طبقة رقيقة من الجص ثم يترك ليجف، على أن فنانين آخرين يرسمون اللوحة مباشرة دون تجهيز توفيراً للنفقات، وقد يتم تحديد الرسم بإطار بلون ذهبي أو أسود، لتبدأ مرحلة الرسم وغالباً ما يكون فطرياً بسيطاً، وأحياناً غير متقن، وتستخدم ألوان طلاء الحوائط العادية من الأكاسيد المخلوطة.
وحسب كتاب "رسومات الحج"، والذي يعد سجلاً توثيقياً بالصور لرسومات الجدران على بيوت الحجاج في مصر، فجرافيتي الحج يقوم به فنان فطري يشرح فريضة الحج، كأحد أركان الإسلام، وبيان شعائره، ثم ينتقل إلى رسم الحجيج أنفسهم وملابسهم، عارضاً لوسيلة السفر القديمة كالجمل والسفينة، والحديثة كالطائرة، وتكاد لا تخلو لوحة من الكعبة كأيقونة للرحلة المقدسة، وقد يعمد فنانون لرسم تفاصيل قصة سيدنا إبراهيم وذبح ابنه إسماعيل، آخرون يرسمون مِنى بشعائرها، أوالوقوف بعرفات، وغيرها من مشاهد الحج الرائعة، لتظل الإبداعات والألوان والتصميمات ذات طابع روحاني يلامس ذلك الظل الداخلي الديني داخل كل منا، والذي يتمنى أن يقوم بهذه الرحلة الروحية المقدسة.
تابعوا المزيد: خطوات تحليل اللوحات الفنية
الجداريات فنون تشكيلية وفنون خط عربي
لم تتوقف الجداريات عند حدود الرسم والتلوين، بل تخطتها لفنون الخط العربي، والتي غالباً ما تكون فطرية، وما بين حكم وأمثال ودعوات وآيات قرآنية، يخط الفنان الخطاط المبدع الفطري كل تفاصيل الرحلة المقدسة.
مؤخراً، باتت التكنولوجيا تفرض وجودها المعتاد؛ لتنازع جرافيتي الحج مكانته، حيث لجأ عدد من الحجيج لتوثيق حجهم عبر لوحات يتم طباعتها وتعليقها داخل أو خارج المنزل، ممهورة بدعوات وآيات قرآنية، وعلى الرغم من ذلك؛ سيظل فن جرافيتي الحج فناً شعبياً بامتياز، له نكهته وإبداعه الذي لا يقاوم.
تابعوا المزيد: تكبيرات عيد الأضحى
