كيف‭ ‬أكون‭ ‬
وحيداً‭ ‬والله‭ ‬معي؟

د. سعاد الشامسي 
د. سعاد الشامسي  
د. سعاد الشامسي

الوحدة‭ ‬مُعلقة‭ ‬على‭ ‬أكتافي،‭ ‬تسير‭ ‬حيث‭ ‬أسير،‭ ‬تُظللني‭ ‬وتذكرني‭ ‬بأني‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬يرافقه‭ ‬أحد،‭ ‬دون‭ ‬سبب‭ ‬واضح‭.‬
في‭ ‬الغربة‭ ‬أسير،‭ ‬يظنني‭ ‬الناظر‭ ‬إليَ‭ ‬في‭ ‬المترو‭ ‬أن‭ ‬لدي‭ ‬بيتاً‭ ‬بباب،‭ ‬وعائلة‭ ‬تنتظرني،‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬أني‭ ‬أتناول‭ ‬طعامي‭ ‬مقابل‭ ‬كرسي‭ ‬يملؤه‭ ‬الهواء،‭ ‬حتى‭ ‬القط‭ ‬الذي‭ ‬آويته‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬وحميته‭ ‬من‭ ‬أقدام‭ ‬المارة،‭ ‬وحيدٌ‭ ‬مثلي،‭ ‬تنحصر‭ ‬مهامه‭ ‬في‭ ‬الأكل‭ ‬والنوم،‭ ‬وحين‭ ‬أراه‭ ‬يلعب،‭ ‬يقف‭ ‬جامداً،‭ ‬كأن‭ ‬لهوه‭ ‬سراً‭!‬
لا‭ ‬أنهي‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬المكتب،‭ ‬أجمعه‭ ‬وآخذه‭ ‬للبيت‭ ‬كضيف‭ ‬عزيز،‭ ‬أعرفه‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬والمكتبة‭ ‬وأكواب‭ ‬القهوة‭ ‬المكدسة‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬مكانها،‭ ‬أشعل‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬المدفئة،‭ ‬وأحرق‭ ‬مذكرات‭ ‬قديمة،‭ ‬يُدفئني‭ ‬عبقها،‭ ‬ويذكرني‭ ‬بأن‭ ‬الأيام‭ ‬تلهو‭ ‬أيضاً‭ ‬خفية‭ ‬بالإنسان،‭ ‬والإنسان‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬اللعبة‭ ‬بقواعدها‭ ‬الصحيحة،‭ ‬يظل‭ ‬تائهاً‭ ‬حتى‭ ‬تصدر‭ ‬نغمة‭ ‬تُعلن‭ ‬النهاية،‭ ‬وتفوز‭ ‬الأيام‭ ‬عليه‭ ‬ويصبح‭ ‬الحاضر‭ ‬ماضياً‭..‬
أنام‭ ‬والوحدة‭ ‬تأخذ‭ ‬حيزاً‭ ‬بجانبي،‭ ‬أمدُ‭ ‬يدي‭ ‬أفتش‭ ‬عن‭ ‬جسم‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مُلقى‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬باتت‭ ‬بعيدة،‭ ‬تقطعها‭ ‬محيطات‭ ‬وعادات،‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بالي‭ ‬فيلم‭ ‬Her‭ ‬أقول‭ ‬للفكرة‭ ‬لا،‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬فريسة‭ ‬عاطفية‭ ‬للتكنولوجيا،‭ ‬لن‭ ‬تلوي‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬قلبي‭ ‬بصوت‭ ‬يحادثني‭!‬
أنام،‭ ‬أصحو،‭ ‬أعد‭ ‬الفطور،‭ ‬وأدعو‭ ‬القط،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يأبى،‭ ‬أسمع‭ ‬صوت‭ ‬العصافير،‭ ‬فأفتح‭ ‬النافذة،‭ ‬أنظر‭ ‬للسماء‭ ‬وأقول‭: ‬هل‭ ‬تراني؟
أغلق‭ ‬النافذة،‭ ‬أحضن‭ ‬كوب‭ ‬الشاي‭ ‬بكلتا‭ ‬يدي‭! ‬أغادر‭ ‬للعمل‭ ‬وأنا‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬وحدتي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينتبه‭ ‬لها‭ ‬أحد‭ ‬سواي،‭ ‬فالجميع‭ ‬هنا‭ ‬يُعاملني‭ ‬كغير‭ ‬مرئي،‭ ‬إنسان‭ ‬طبيعي‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬من‭ ‬وحدته‭!‬
غيرت‭ ‬وجهتي،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أخذ‭ ‬اليوم‭ ‬حصة‭ ‬تأمل،‭ ‬اخترت‭ ‬شارعاً‭ ‬يطل‭ ‬على‭ ‬حديقة‭ ‬مليئة‭ ‬بالربيع‭ ‬والأحبة،‭ ‬تساءلت‭: ‬هل‭ ‬يوزعون‭ ‬ضحكات‭ ‬مجانية‭ ‬هنا؟‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬عائلة‭ ‬مثل‭ ‬هذه؟
لست‭ ‬طبيعياً‭ ‬اليوم،‭ ‬كثر‭ ‬حديثي‭ ‬مع‭ ‬نفسي،‭ ‬والأسئلة‭ ‬تصعق‭ ‬دماغي،‭ ‬بكيت‭ ‬كثيراً‭ ‬وأنا‭ ‬أحدق‭ ‬في‭ ‬الشمس،‭ ‬كأن‭ ‬بيننا‭ ‬عداوة،‭ ‬كأني‭ ‬غيمة‭ ‬عكرت‭ ‬صفو‭ ‬مزاجها‭!‬
توقفت‭ ‬عن‭ ‬البكاء‭ ‬حين‭ ‬لمس‭ ‬رجل‭ ‬كتفي‭ ‬وهمس‭: ‬وحد‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬بني‭.‬
صرخت‭ ‬في‭ ‬الهواء‭: ‬أنا‭ ‬وحيد‭.‬
نظر‭ ‬الرجل‭ ‬إلي‭: ‬كيف‭ ‬يتركك‭ ‬الله‭ ‬وحيداً‭ ‬وقد‭ ‬بعثني‭ ‬إليك‭.‬
نظرت‭ ‬له‭ ‬بتعجب‭ ‬ولم‭ ‬أجبه،‭ ‬ظننت‭ ‬أنه‭ ‬مجنون‭ ‬متجول،‭ ‬فأشرت‭ ‬له‭ ‬ملوحاً‭ ‬بيدي‭ ‬ووضعت‭ ‬رأسي‭ ‬بين‭ ‬يدي‭.‬
عاد‭ ‬الرجل‭ ‬يتحدث‭:‬
الوحدة‭ ‬هي‭ ‬شعور‭ ‬يرسله‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬روح‭ ‬الإنسان‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬إليه،‭ ‬حتى‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬دائم‭ ‬سوى‭ ‬وجهه‭ ‬تعالى،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬بحياتك،‭ ‬ولكني‭ ‬أنا‭ ‬وحيد‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالإيمان،‭ ‬وحيد‭ ‬غني‭ ‬بصحبة‭ ‬الله،‭ ‬لست‭ ‬مجنوناً‭ ‬كما‭ ‬راودتك‭ ‬الفكرة،‭ ‬أنا‭ ‬عاقل‭ ‬لدرجة‭ ‬أني‭ ‬أستشعر‭ ‬الله‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬خطوتي‭ ‬القادمة،‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬يوجهني‭.‬
وأنت‭ ‬كذلك،‭ ‬استشعر‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬وحدتك،‭ ‬وسوف‭ ‬تكون‭ ‬غنياً‭ ‬بصحبته‭..‬
ملأني‭ ‬الكلام‭ ‬حتى‭ ‬ظننت‭ ‬أنها‭ ‬معجزة،‭ ‬حين‭ ‬سألت‭ ‬الله‭ ‬سؤالاً‭ ‬أتاني‭ ‬جوابه‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬راحة‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬كأني‭ ‬كنت‭ ‬هواءً‭ ‬محبوساً‭ ‬في‭ ‬بالون‭ ‬كبير،‭ ‬وحررني‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬شككت‭ ‬بعقله‭.‬