الوحدة مُعلقة على أكتافي، تسير حيث أسير، تُظللني وتذكرني بأني واحد لا يرافقه أحد، دون سبب واضح.
في الغربة أسير، يظنني الناظر إليَ في المترو أن لدي بيتاً بباب، وعائلة تنتظرني، لا يعلم أني أتناول طعامي مقابل كرسي يملؤه الهواء، حتى القط الذي آويته من البرد وحميته من أقدام المارة، وحيدٌ مثلي، تنحصر مهامه في الأكل والنوم، وحين أراه يلعب، يقف جامداً، كأن لهوه سراً!
لا أنهي عملي في المكتب، أجمعه وآخذه للبيت كضيف عزيز، أعرفه على الطاولة والمكتبة وأكواب القهوة المكدسة منذ أيام مكانها، أشعل النار في المدفئة، وأحرق مذكرات قديمة، يُدفئني عبقها، ويذكرني بأن الأيام تلهو أيضاً خفية بالإنسان، والإنسان لا يعرف اللعبة بقواعدها الصحيحة، يظل تائهاً حتى تصدر نغمة تُعلن النهاية، وتفوز الأيام عليه ويصبح الحاضر ماضياً..
أنام والوحدة تأخذ حيزاً بجانبي، أمدُ يدي أفتش عن جسم كان عليه أن يكون مُلقى هنا، في بلاد باتت بعيدة، تقطعها محيطات وعادات، يخطر على بالي فيلم Her أقول للفكرة لا، لن أكون فريسة عاطفية للتكنولوجيا، لن تلوي التكنولوجيا قلبي بصوت يحادثني!
أنام، أصحو، أعد الفطور، وأدعو القط، إلا أنه يأبى، أسمع صوت العصافير، فأفتح النافذة، أنظر للسماء وأقول: هل تراني؟
أغلق النافذة، أحضن كوب الشاي بكلتا يدي! أغادر للعمل وأنا أفكر في وحدتي التي لا ينتبه لها أحد سواي، فالجميع هنا يُعاملني كغير مرئي، إنسان طبيعي لا يموت من وحدته!
غيرت وجهتي، قررت أن أخذ اليوم حصة تأمل، اخترت شارعاً يطل على حديقة مليئة بالربيع والأحبة، تساءلت: هل يوزعون ضحكات مجانية هنا؟ من أين أحصل على عائلة مثل هذه؟
لست طبيعياً اليوم، كثر حديثي مع نفسي، والأسئلة تصعق دماغي، بكيت كثيراً وأنا أحدق في الشمس، كأن بيننا عداوة، كأني غيمة عكرت صفو مزاجها!
توقفت عن البكاء حين لمس رجل كتفي وهمس: وحد الله يا بني.
صرخت في الهواء: أنا وحيد.
نظر الرجل إلي: كيف يتركك الله وحيداً وقد بعثني إليك.
نظرت له بتعجب ولم أجبه، ظننت أنه مجنون متجول، فأشرت له ملوحاً بيدي ووضعت رأسي بين يدي.
عاد الرجل يتحدث:
الوحدة هي شعور يرسله الله إلى روح الإنسان حتى يعود إليه، حتى يعرف أن لا أحد دائم سوى وجهه تعالى، لا أعرف ما جرى بحياتك، ولكني أنا وحيد ممتلئ بالإيمان، وحيد غني بصحبة الله، لست مجنوناً كما راودتك الفكرة، أنا عاقل لدرجة أني أستشعر الله حتى في خطوتي القادمة، أعرف أنه يوجهني.
وأنت كذلك، استشعر الله في وحدتك، وسوف تكون غنياً بصحبته..
ملأني الكلام حتى ظننت أنها معجزة، حين سألت الله سؤالاً أتاني جوابه على هيئة راحة في نفسي، كأني كنت هواءً محبوساً في بالون كبير، وحررني هذا الرجل الذي شككت بعقله.