لم تتذكر الفنانة، الأميركية من أصل عراقي، متى أبدعت أول قطعة فنية لها؛ ذلك أن صنع الفن جزء من حياتها منذ أن كانت طفلة. لقد نشأت في منزل فني خلال فترة العقوبات الاقتصادية في العراق. كان والدها مصوراً، ووالدتها تعمل في صناعة الخزف، أول ما بدأت بالرسم، وسافرت بعدها إلى الولايات المتحدة في سن الـ 15 بصفتها لاجئة، وهذا منحها مرونة في النظر إلى الأشياء؛ حيث راحت تنظر بتمعّن إلى مشهد نيويورك الصاخب. هي الفنانة مريم تركي التي حاورتها «سيدتي» لتبوح عن أسرار أعمالها الفنية الساحرة.
تم قبول مريم تركي في مدرسة بالتيمور للفنون بأميركا، وهي مدرسة ثانوية خاصة بالفنون؛ حيث تعلمت الرسم الأكاديمي. بعد المدرسة الثانوية، تتابع مريم: «انتقلت إلى نيويورك لدراسة التصميم الصناعي في معهد برات؛ ما منحني المهارات اللازمة لإبداع الأثاث المنحوت الذي أستخدم فيه العديد من المواد، بما في ذلك الطين الذي أخلطه بنفسي من لب الورق والجص والراتنج».
أتعمّد ذلك
تستخدم مريم في أعمالها موادّ تبدو أكثر صلابة، أو أثقل في الوزن، وهذا ما عدّه بعض النقاد مضللاً، تستدرك مريم: «أعمالي مختلفة الأوزان، سلسلة Jidar التي أطلقتها، مثلاً، خفيفة للغاية؛ لأنها مصنوعة من الرغوة من الداخل، أنا أتعمّد ذلك؛ لأنني عندما أطبق الصلصال على الرغوة، فإن الرغوة تنحني بشكل طبيعي، وتزيد من غموض العمل. قطع My Oikos وسلسلة Between Rise and Fall أثقل بكثير؛ لأن هيكلها مصنوعٌ من الخشب والمعدن».
مسرحيةُ الظلال
للمهندس الفرنسي لو كوربوزييه، مقولة مشهورة، وهي: «أعيننا مصنوعة لرؤية الأشكال في الضوء؛ الضوء والظل يكشفان هذه الأشكال»، تستدرك مريم: «أنا مرتبطة بهذا الاقتباس، وأعتقد أن الشمس هي مصدر إلهامي النهائي. إنني منجذبة جداً إلى مسرحية الظلال، التي تحدث عندما تضرب الشمس المباني. تتغير الظلال وتتغير كل ثانية مع دوران الأرض وتغير اتجاه الشمس. أحياناً أمسك بالشمس وأكوّن ظلالاً مجنونة على قطعة أعمل عليها. تقريباً كما لو كانت هذه الظلال تساعدني في تأليف القطعة».
المباني البائسة
لا تخلو أعمال مريم الفنية، كما يجد بعض النقاد، من الحس المعماري، الذي يشكّل نوعاً من الإلهام في أعمالها، مثل الأسلوب «المعاصر»، أو أسلوب «التفكيك» للعمارة على سبيل المثال، لكن لمريم رأي آخر؛ إذ تقول: «ليس بالضرورة أن أستوحي من أسلوب معماري معين. أنا، ببساطة، أستخدم المباني بوصفها رمزاً للدورة البشرية للبناء والتدمير وإعادة البناء. جمالية عملي عبارة عن مزيج من المباني البائسة التي هي إما قيد الإنشاء أو مدمرة. لهذا السبب أستخدم القضبان؛ لأنها تمثل الهيكل العظمي لمبنى مكشوف في المبنى وفي حالة الدمار».
سأستخدم الرمل المحلي في السعودية لاكتساب الإلهام من الوجود في هذا الموقع
تعقيداتُ الهويّة والأحداث
ذكرت مريم أنها بحاجة إلى وقت لتفهم حتى العمل الذي قامت به بالفعل، وقد يُنظر إلى هذا على أنه غرابة مطلقة، توضح قائلة: «هذا يعني أن عملية صنع الفن لا حصر لها بالنسبة إلي. لا أشعر أبداً أنني وصلت إلى نقطة الكمال في عملي. كل قطعة أصنعها تلهمني قطعة أخرى... إلخ. وكل قطعة أقوم بها تحكي قصة، لكن القصة لا تحددها بالضرورة. إن صناعة الفن بالنسبة إلي هي طابع الوجود. يتم التعبير عن كل تعقيدات الهوية والأحداث الجارية وتجارب الحياة في عملي دفعة واحدة. إن كوني ولدت في بغداد وعشت ظروف الحرب ليس سوى جزء واحد من تكويني بوصفي إنسانة».
لا تتبع الشخصية الحية في عمل مريم الصورة النمطية للمجتمع عن نوعه، وهي تجد نفسها محظوظة؛ لأنها تمكنت من الوصول إلى شخصية الطفل في داخلها، تعلّق قائلة: «مهما كان نوع الطفل، وبعيداً عن وجهات نظر المجتمع من حولي.. شخصيتي الداخلية هي طفل فضولي، مرح ومجنون».
تعرّفي إلى المزيد: فنانة تصنع جذوع أشجار من ملابس والدها تكريما لذكراه
منازلُ مبنيةٌ بالطين
سبق أن تحدثت مريم عن لغة الوباء، فما الحروف التي اختارتها له، وعن الأفكار التي تحركت بداخلها خلال العامين الماضيين، تتابع مريم: «بصفتي إنسانة عشت في كل من بغداد ونيويورك، فأنا أدرك الانقسام والعلاقة بين الشواغر في المباني بعد حرب بغداد مقابل الشواغر في المباني التجارية الشاهقة في مدينة نيويورك أثناء الوباء. كلاهما له تأثيرات فردية خاصة به. ومع ذلك، فإن كلاهما يردد صدى شعور متحرك وقوي بالفراغ، والغياب، وفقدان مفاجئ للطاقة البشرية».
أثناء مشروع On Governors Island في مدينة نيويورك، تم إعداد خيمة لمريم لتكون في اتصال مباشر مع الطبيعة، لتحفيزها على ابتكار فن يمثل البناء والانهيار، وعمّا إذا تم نصب خيمة لها في المملكة العربية السعودية، فما المكان الذي ستختاره، وما الفكرة التي تدور في ذهنها، تستدرك مريم: «سأختار مكاناً كله صحراء، ومُحاطاً بمنازل مبنية بالطين. سأكون حريصة على استخدام الرمل المحلي في المملكة لخلطه مع الطين واكتساب الإلهام من التواجد في هذا الموقع أولاً. لكنني في كثير من الأحيان، لا أستطيع تحديد الفن الذي سأقوم به في المستقبل؛ لأن أفضل فن لدي يأتي من «الحاضر» في الوقت الحالي مع محيطي».
لا أشعر أبداً أنني وصلت إلى نقطة الكمال في عملي. كل قطعة أصنعها تلهمني بقطعة أخرى
أفاجئ نفسي
عادة، ما يسمح كل فنان لعمله بأن يكشف شيئاً من مكنوناته، لكن تكرار «صنع» هو ما يتيح لها الوصول إلى الصوت بداخلها لتتحاور معه باستمرار، تعلل مريم: «أحب الحوادث السعيدة، وما يجعلني أكتشف طرقاً مختلفة في عملي أنني أتطلع باستمرار إلى مفاجأة نفسي في الأستوديو».
أطلقت مريم مجموعة كبيرة من الأثاث، يبدو أنها غير صالحة للاستعمال في الصور، لكنها تنفي ذلك بالقول: «إنه قابل للاستخدام، ويمكن تصنيفه تحت مظلة «الأثاث النحتي» الذي يقع بين الفن والتصميم، وقد تم اختياري مؤخراً بصفتي واحدة من أفضل 7 مصممي فنون في أميركا لعرضهم في معرض Carpenters Workshop، الذي يعد واحداً من أكبر صالات عرض الأثاث المنحوت في العالم».
تقدم مريم، حالياً، عروضاً جماعية عدة في مدينة نيويورك. وفي غضون شهرين، ستبدأ بعمل منحوتات خارجية دائمة كسلسلة جديدة. تعلّق قائلة: «اعتدت باستمرار أن أقوم بتخطي حدودي، ولا أستطيع أن أخبركم بالضبط بما سأفعله في المستقبل، لكنه سيكون دائماً أكبر من ذي قبل وغير متوقع».
تعرّفي إلى المزيد: في يوم التصوير العالمي .. تعرفي على حقائق مدهشة عن التصوير الفوتوغرافي