اتصل بي قبل أيام صديق محترم وقال: يا أحمد؛ أنا توقفت عن فعل الإحسان، لأن أغلب الذين أحسنت إليهم وساعدتهم، تنكروا لي وجحدوني، ولقد صدق الأثر القائل: "اتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْه ِ".
حينها التفت إليه باهتمام كبير وحرص أصفر اللون وقلت له: "يا أخي النبيل؛ إن العلماء والنبلاء والعقلاء، يتعاملون مع الإحسان وفق القواعد الآتية:
أولاً: يفعلون الإحسان من باب دفع زكاة الوجاهة والعلم والقوة التي يتمتعون بها، وهم حين يفعلون ذلك يشعرون بنعمة الله، بحيث أصبحوا هم من يقدمون الإحسان وليس هم من يستقبلونه، وفي ذلك يقول الشافعي:
لا تمنعن يـد المعــروف عــن أحــد
مــا دمـت مقتدرا فالســعد تـارات
واشكر فضائل صنع الله إذا جعـلت
إليـك لا لك عنــد النـاس حـاجــات
ثانياً: أهل الإحسان عندما يحسنون، فهم لا ينتظرون الشكر، بل يتمتعون برؤية مخرجات الإحسان، وما زلت أتذكر أنني توسطت لأربعة من طلاب الدكتوراه لإكمال دراستهم، وأصبحوا الآن من المعروفين، وكلما رأيت إنتاجهم، أفرح بيني وبين نفسي، لأنني أسهمت، ولو بجزء بسيط، في تكوين مستقبلهم.
ثالثاً: إن من يفعلون الإحسان في الغالب يكونون في حفظ الله ورعايته، لأن إحسانهم يمنعهم من الشرور، وفي ذلك يقول أبو بكر الصديق: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات"، كتب التراث والواقع مليئة بأولئك الذين نجو من وسائط ومخاطر وحوادث كثيرة، بسبب فعل إحسان أو صنع معروف هنا أو هناك، وأول المعترفين بهذا الفضل كاتب هذه السطور.
رابعاً: وهو الأهم وجعلته أخيراً لأهميته، إن أهل الزهد والطاعة وأهل الخير، لا ينتظرون من الناس الشكر ولا الاعتراف بالجميل، لأنهم يتعاملون مع الله عز وجل، فيطعمون الطعام، ويعلمون الإحسان مرددين قوله تعالى: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا".
لذلك؛ هم يعملون المعروف ويطعمون الطعام، ويضعون هذا كله في رصيد حسابهم عند الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
في النهاية أقول:
لقد ربتنا أمي "لؤلؤة العجلان" - رحمها الله - على فعل الخير وصنع الإحسان وعمل المعروف مع البشر والحجر والحيوان قبل الإنسان، وقد كانت تردد وهي على فراش الموت بيتاً من الشعر أرضعتنا إياه مع اللبن عندما كنا أطفالاً، وكنا نرددها على مسمعها كل يوم جمعة قائلين:
ازرعْ جميلاً ولو في غيرِ مَوضعهِ
فَلا يضيعُ جميلٌ أينما زُرِعا
إنَّ الجميلَ وإن طالَ الزمانُ بهِ
فليسَ يَحصدُهُ إلا الذي زَرَعا