تروي المحفوظات السمعية والبصرية قصصاً عن معايش الناس وثقافاتهم. فهي تمثل تراثاً لا يقدر بثمن، ومصدراً قيِّماً للمعرفة؛ لما لها من دور في إبراز التنوع الثقافي والاجتماعي واللغوي لمجتمعاتنا. والمحفوظات تساعدنا في النمو الإدراكي وتعميق الفهم بالعالم الذي نتشاركه جميعاً، والتفاعل مع الآخرين؛ حيث تزودنا عناصر التراث الوثائقي بنافذة نطل منها على الشعوب من خلال متابعة الفعاليات التي لا يمكننا المشاركة فيها... بمناسبة اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري، نسلط الضوء من خلال الخبراء والمتخصصين، على أهمية وثائقه، والمشاريع المتعلقة التي أقيمت، وإلى أين وصلت؟
أعدّت الملف | لينا الحوراني Lina alhorani
تصوير | محمد فوزي Mohamed Fawzy
جدّة | فاطمة باخشوين Fatima Bakhashween
المنطقة الشرقية | سمية آل خير Somia Alkhair
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad
بيروت | عفت شهاب الدين Ifate Shehabdine
تصوير | نديم أصفر Nadim Asfar
القاهرة | أيمن خطّاب Ayman Khattab
تونس | منية كواش Monia Kaouach
من جدة
علي بن سليمان البلوي:
النقوش الأثرية في السعودية متحف طبيعي مفتوح
يقول علي بن سليمان البلوي، الباحث والمؤلف في التراث والآثار، إنّ تكيّف «البدو» في السعودية مع البيئة الصحراوية القاسية، أثار إعجاب الكثير من الباحثين في الموروث المرئي اليوم، ومن تلك الأمور «المريس»، وهي طريقة قديمة لادّخار الطعام، وهو عبارة عن حليب الماعز والضأن الذي يتم حلبه غالباً في الربيع، يطبخونه مع بعض الإضافات، ويشكلونه على هيئة أصابع، ثم ينشرونه على الحجر أو بيت الشعر ويدخرونه، يتابع قائلاً: «هناك «الصميل» أو «القربة» المصنوعة من جلد الماعز، الذي يتم دباغته وحفظ اللبن فيه لفترات طويلة، ولن ننسى الأداة الأهم «السدو»، التي تمكن القدماء بواسطتها من صناعة بيوت الشعر».
ومن إحدى الطرق التي تثير الإعجاب، ما يُعرف بالـ«صعود»، وهو السمن مضاف إليه بعض الأعشاب، ويُحقن في أداة صغيرة «المحقان»، أو “الصق رق” كما كانت تُعرف، ويستنشق الشخص السمن ويشفى من الصداع واللحمية والالتهابات.
روعة البحث
النقوش الأثرية في السعودية متحف طبيعي عجيب مفتوح في منطقة الوجه، ومنطقة أبو راكة التابعة لمملكة اللحيان، فكان الأشخاص آنذاك يخلدون ذكرياتهم وأسماءهم وهم ذاهبون إلى الحج، يتابع البلوي: «كذلك النقوش الثمودية والأموية الموجودة والمنتشرة في ضواحي محافظة الوجه، إضافة إلى النقش الإسلامي ذي النص الطويل غير المنقط الذي وجد أيضاً في محافظة الوجه ويُشير نصه إلى دعاء (اللهم ارض عني... لا سخط بعده، اللهم اغفر لحماد... اللهم نشهدك وملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنا نشهد لا إله إلا الله واحد أحد...)، والكثير من النقوش والآثار الصخرية بين مدينتي العُلا والوجه، التي توضح صيد النعام والغزلان... كل تلك الآثار روعة البحث عنها تُنسينا عناء التعب أثناء العمل والرحلات».
تابعي المزيد: الثقافة السعودية تنظم مهرجان "جدة للتراث".. ينطلق في ديسمبر المقبل
من الشرقية
صالح العنزي:
جمع التحف يحتاج إلى الكثير من المال
صالح العنزي، صاحب متحف للمقتنيات الأثرية، بمحافظة الخبر شرق السعودية، جمع فيه العديد من القطع النادرة والمختلفة التي توثق تاريخ الأجداد، ليقدمها لهذا الجيل بوصفها مصدراً للمعرفة والإلمام بتاريخ الوطن حسب قوله.
بدأ صالح بجمع المقتنيات منذ أكثر من 25 سنة، بوصفها مصدراً ثقافياً وتراثياً متنوعاً متاحاً لكل مختصي التراث ومحبيه، يتابع العنزي: «زارني الأمير سعود بن نايف، أمير المنطقة الشرقية، والأمير جلوي نائبه سابقاً، وغيرهما من الشخصيات المعروفة. وعن محتويات متحفه، يؤكد أنه يضم قطعاً من القديم والنادر من الأسلحة والسيوف، وأدوات صنع القهوة، إضافة إلى العملات القديمة التي تم تداولها في فترات مختلفة، وكذلك أدوات الزراعة والمخطوطات الأثرية في حقب فائتة، وعن أقدم القطع وأقربها إلى قلبه يتابع قائلاً: “بندقية الملك عبد العزيز، وأول جواز سعودي.. كما أنني أميل أكثر لجمع الأسلحة القديمة والمخطوطات».
المتاحف تحتاج إلى التطوير
أنه ليس من السهل جمع التحف الأثرية؛ لأنها تكلف الكثير من المال، وهو التحدي الذي يواجهه العنوي، يعلّق قائلاً: «إضافة إلى الجهد الكبير في السفر للبحث عنها، وصعوبة الحفاظ عليها، خاصة حينما يكون المجهود شخصياً».
تتمثل أبرز مشاكل قطاع المتاحف في صعوبة الحصول على التراخيص، فهناك متاحف خاصة كثيرة، ولكن ينقصها الترخيص، ومن وجهة نظر العنزي، فإن أصحاب المتاحف يحتاجون إلى اهتمام أكبر، وعلى الرغم من وجود لائحة، لكنها لا تخدم أهل المتاحف الخاصة، خصوصًا المبتدئين منهم.
من الإمارات
رشاد محمد بوخش:
تم توثيقها عن طريق الأفلام والراديو والتلفزيون
«المحفوظات معرضة للخطر: يبقى الكثير مما ينبغي فعله»، «نافذتك إلى العالم»، هذه أحد شعارات «اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري»، التي حرصت الإمارات على المحافظة عليها، كما يقول رشاد محمد بوخش، رئيس جمعية التراث العمراني في الإمارات.
يتعرض التراث السمعي والبصري من تسجيلات صوتية وصور متحركة في العالم لخطر كبير؛ بسبب الإهمال، والتحلل الطبيعي، والتقادم التكنولوجي، فضلاً عن التدمير المتعمد، في بعض بلدان العالم، للأسف، يتابع رشاد بوخش: «من الموروثات الجميلة في الإمارات، التي تم اعتمادها من اليونسكو «التغرودة»، وهو شعر غنائي بدوي، أبدعه حداة الإبل ورعاة الغنم، بوصفه وسيلة تسلية للرحالة في أسفارهم الطويلة في الصحاري الشاسعة، يتابع بوخش: «كانوا يعتقدون أنها تحث الإبل على المضي في السير بهمة، ويغلب على فن التغرودة موضوع تعبير المنشد عن حبه لأحبائه وأقاربه وأصدقائه وشيخ القبيلة. واستخدم الشعراء التغرودة أيضاً لإبداء آرائهم في القضايا الاجتماعية وإبراز الإنجازات التاريخية».
رياضة الأجداد
تم توثيق الآثار السمعية والبصرية، عن طريق الأفلام والراديو والبرامج التلفزيونية والتسجيلات الصوتية والبصرية، وقد ضرب بوخش أمثلة تم اعتمادها من قبل اليونسكو، مثل الرزفة، وفن العازي، يستدرك قائلاً: «هناك سباق الهجن الذي يصفه الكثيرون بأنّها الرياضة القديمة الحديثة، أو رياضة الأجداد التي تثير الحماسة والتنافس بين شباب الأبناء في العصر الحديث. وكذلك رقصة العيالة التي تجمع الرجال والصبية الذين يحملون عِصِي الخيزران الرفيعة، ويتحركون بانسجام تام على إيقاع منتظم رصين صادر من الطبول».
اعتمدت اليونسكو 11 تراثاً سمعياً وبصرياً في الإمارات، والإماراتيون ينتظرون اعتمادهم للخط العربي، وحداء الإبل، وأكلة الهريس الشعبية.
تابعي المزيد: النهوض بالحرف التراثية واستثمارها ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2022
من لبنان
عليا شهاب:
فهم أهمية الصمت أهم عنصر وثائقي
تطالب عليا شهاب، خبيرة في شؤون الصوت والتراث السمعي في اليونسكو- باريس، بمعالجة هذه المسألة من خلال التربية؛ لأننا بتنا نعيش في زمن الأذن أكثر من زمن البصر، وتجد أن إيلاء الأهمية للصوت أمر ضروري ومهم تماماً مثل التراث البصري.
إن العلاقة بين الصورة والصوت علاقة وطيدة، حتى لو بتنا اليوم نركز على التراث السمعي أكثر في حياتنا؛ لأن التراث البصري بات متوفراً بشكل كبير من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، تتابع عليا: «ما يجب أن نركز عليه هو النوعية، والمضمون، والجودة، التي يقدّمها التراث السمعي، للحفاظ على كيفية السمع وصحته.. فهذا التراث السمعي والبصري يعبران عن حياة الناس، وقصصهم، وثقافاتهم، وحضاراتهم في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى أنهما مصدر قيّم للمعرفة والعلم واللغة... تستدرك عليا: «يجب حفظ الموجودات المهمة في العالم، كالأفلام والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وإِنقاذها من أَحداث تهدّدها نتيجة الإهمال والتدهور أو التطوّر التكنولوجي».
الصمت التأملي
تعدّ المواد المرئية والمسموعة من أهم عناصر التراث الوثائقي، وهي نافذة نعبر من خلالها الى العالم بواسطة متابعة الفعاليات التي لا يمكننا المشاركة فيها، أو الإصغاء إلى أصوات بقيت حبيسة الماضي، تستدرك عليا «اختاروا جودة التراث السمعي؛ لأنه يؤثر إلى حدّ كبير في نوعية العلاقات البشرية والاجتماعية في كل وقت وزمان، وهذا الأمر يجعلنا نتلاقى على فهم أهمية الصمت».
تحدثت عليا عن التجربة الفنية لناتالي حرب بعنوان «الصَدفة»، والمُصممة خصيصاً لضيوف مهرجان العلا للاستجمام والاسترخاء، تستدرك عليا: «تتضمّن هذه التجربة فنون النحت، والموسيقى، والأصوات، إضافة إلى مساحة معزولة لجلسات الصمت التأملي».
من المغرب
د. لطيفة أخرباش:
نعمل على تطوير التطبيق المعلوماتي
تجد د. لطيفة أخرباش، إعلامية، رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري في الرباط، هذا اليوم فرصة ورهاناً لحفظ الذاكرة السمعية والبصرية، ومناسبة لإرساء السياسات الحمائية التي تتيحها التطورات التكنولوجية. ففي تلف الذاكرة، غموض الحاضر وضبابية المستقبل. للأرشيف السمعي والبصري خصوصيات تعكس حجم ونطاق مسؤوليته الإنسانية في حفظ الذاكرة، على شكل برامج للحفظ الدائم بعد إخضاعها لمعايير انتقاء محددة. تتابع د. لطيفة: «من خصوصيات الأرشيف السمعي والبصري تعدد مستعمليه، بدءاً من منتجيه، مروراً بالأساتذة والطلبة الباحثين ومهنيي الإعلام والأخصائيين البيداغوجيين، وانتهاء بعموم المواطنين؛ لذلك لا بد من توثيقه وحفظه عبر تسجيل جميع الإشارات الإذاعية والتلفزية العمومية والخاصة وتخزينها وأرشفتها، 24 ساعة/24 و7 أيام/7، ليس فقط من أجل الاستجابة لحاجات عملية تتبع البرامج، بل أيضاً من أجل تطوير نظام معلوماتي يمكن من معالجة هذا الرصيد واستغلاله».
ذاكرةٌ مشتركةٌ
سبق للهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري أن نظمت زيارات ميدانية للاطلاع على تجارب رائدة في مجال تدبير الأرشيف السمعي والبصري وطنياً ودولياً، تستدرك د. لطيفة: «أجرينا ورشات تكوينية دولية في هذا المجال، فضلاً عن تنظيمها، وأقمنا ندوة دولية حول «حماية الأرشيف السمعي البصري، تراث وذاكرة مشتركة»، بالشراكة مع الشبكة الفرنكوفونية لهيئات تقنين الإعلام، والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري بكوت ديفوار، ونادينا بإطلاق بوابة وطنية رقمية موصولة بشبكة متطورة لحفظ وتحديث أرشيفنا السمعي والبصري. وتواصل الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري عملية تطوير التطبيق المعلوماتي الذي يتم عبره وصف البرامج السمعية والبصرية وكشفها».
تابعي المزيد: اختيار اللباس التقليدي التونسي محورا لشهر التراث
من مصر
د. ماجي الحلواني:
تقنيات لحفظ واسترجاع المادة الفيلمية
تكشف د. ماجي الحلواني، خبيرة إعلامية عن أشرطة، أن مكتبة ماسبيرو وحدها تحتوي حالياً على 400 ألف ساعة من المواد الفيلمية المختلفة، التي تضم فيديوهات، ومسلسلات، وحفلات، ومباريات كرة قدم شهيرة، ومواد مصورة نادرة للملك فاروق والرئيسين عبد الناصر والسادات. نفذ مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي، في القاهرة، مجموعة من المشاريع الوطنية بهدف حفظ الفنون المصرية، وذلك من خلال ثلاثة مستويات: الأول، توثيق المعلومات عن الملحنين والكلمات. والثاني، توثيق أعمال الفنانين ومقاطع الفيديو والصوت لهم، تتابع د. ماجي: «أما المستوى الثالث، فهو تحليل موسيقي مفصل لمقطوعات مختارة من قبل النقاد المتخصصين».
خدمة الاستماع لحفلاتها
قام المركز بإخراج سلسلة «موسوعة تاريخ السينما في مصر»، لتغطي الفترة من 1896 حتى 1945، من توثيق وتحرير أحمد الحضري رحمه الله، تعلّق د. ماجي: «هناك توثيق للمسرحيات بعد معالجة الأصول الخاصة بها ونشرها على الموقع الإلكتروني للمكتبة».
كما تقدم دار الأوبرا المصرية من خلال مكتبتها خدمة الاطلاع والاستماع لحفلاتها، تستدرك د. ماجي: «كل ذلك في قاعة الفيديو أو قاعة الاستماع؛ حيث تحتوي المكتبة على أسطوانات فون - ليزر - شرائط فيديو - شرائط كاسيت». كما أنشأت أكاديمية الفنون مكتبتها عام 1995 لتكون أكبر صرح علمي في مجال الفنون؛ حيث التجهيزات والتقنيات والبرامج الخاصة بحفظ واسترجاع المادة الفيلمية، تعلّق د. ماجي: «كل المكتبات تصب في مجال حفظ التراث السمعي والبصري الذي تنتجه المجتمعات للتغني به والتفاعل معه بوصفه نوعاً من الفلكلور الشعبي».
من تونس
كوثر حامد:
اعتمدنا الرّقمنة كحلّ علاجيّ جذري
هناك دور كبير يقوم به التّلفزيون التونسي في المحافظة على التّراث السّمعي والبصريّ مع الالتزام بشروط ومعايير التّخزين للأشرطة والفيديوهات، كما تؤكد كوثر حامد، دكتورة في علوم الإعلام والاتصال، مسؤولة عن الأرشيف في التلفزيون التونسي، وعضوة في لجنة التّراث السّمعي والبصري في منظّمة «كوبيام».
اعتمد التلفزيون التونسي الرّقمنة كحلّ علاجيّ جذريّ، يضمن تحقيق ديمومة التّسجيلات والأشرطة، تتابع كوثر: «نسخنا الأشرطة في أخرى مقروءة آليا وبوساطة الحاسوب، ونظراً للتّكلفة الباهظة لعمليّات التّرميم والنّسخ والرّقمنة، فضلنا الاعتناء أوّلا بالتّسجيلات القديمة لتكون شاهد عيان للأجيال القادمة عن محطّات مهمة من تاريخ البلاد، وجندنا الكثير من التّقنيين للعمل عليه، وقد تمكنا من بثّ مقتطفات منها».
ذكريات مضت
ترى كوثر حامد أنّ الاستراتيجيّة التي اتبعها التّلفزيون التّونسي مكّنته من المحافظة على تسجيلات صوتيّة وبصريّة وفوتوغرافيّة تعود إلى ثلاثينيّات القرن الماضي، أي منذ تاريخ تأسيس الإذاعة التونسيّة بتاريخ 15 أكتوبر 1938. تستدرك: «شكلنا من الأرشيف 80 سهرة تلفزيّونية متنوعة من حفلات غنائيةّ وبرامج سياسيّة ومشاهد لزيارات فنّانين مشهورين إلى تونس على غرار زيارة الرّاحلين أمّ كلثوم وعبد الحليم حافظ، كما بثّت مسلسلات دراميّة، تروي قصصا اجتماعية من الواقع التّونسيّ، فاستساغ المشاهدون هذه البرامج القديمة وفازت بإعجابهم، لأنّها عادت بهم إلى ذكريات مضت، كما مثّلت شهادات حيّة عن مراحل تاريخيّة مهمة، كان لها دور بارز في بلورة الهوية الاجتماعيّة والثقافيّة واللّغويّة للشعب التونسي».
تابعي المزيد: في اليوم العالمي للتراث .. اليونسكو ترفع شعار "التراث والمناخ" وفعاليات عربية ودولية