في الحوار الآتي، مع تارا ساخي، يبدو شغف الشقيقتين بعوالم التصميم المتشابكة، واضحاً.
والدتكما بولنديّة ووالدكما لبناني، وقد أقمتما في بيروت المتأثّرة بالثقافات الغربيّة والعربيّة؛ كيف تنعكس الهويّة متعدّدة المصادر في أعمالكما التصميميّة؟
من المؤكّد أن الجذور المختلطة، لا سيّما التراث الذي نقلته كلّ ثقافة إلينا، موثّرة في الطبيعة الهجينة لأعمالنا، وفي الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا حول مفهوم الهوية ومسألة الانتماء، مع كل مشروع جديد نتولاه. والدنا لبناني، ووالدتنا بولنديّة، من وارسو، وقد ولدنا في بيروت، التي عشنا فيها سنوات طفولتنا ومراهقتنا، قبل الانتقال إلى الخارج؛ فقد تتبعت علومي الجامعيّة في باريس ثمّ عملت في نيويورك، وتيسا في ميلانو. لقد تنقلنا كثيراً في حياتنا، لذلك ينتابنا شعور بأنّنا ننتمي إلى ثقافات مختلفة مدمجة تأثيراتها ببعضها البعض علينا. في عام 2020، قرّرنا نقل «الاستوديو» التصميمي الخاص بنا من بيروت إلى البندقية، بعد الانهيار الاقتصادي الحاد في لبنان. لطالما كان العيش على هذه الجزيرة السوريالية، يمثّل حلماً لكلينا، في مرحلة ما من حياتنا. ولمّا نزل في ميلانو.
مفاجآت وحوادث
هل تفكّران في المواد التي ستدعم العمل أو التأثير في الجمهور أو تطبيق المفاهيم بشكل صحيح، أثناء إنشاء التصميم؟
نركّز بشكل أساس على جعل أعمالنا، سواء في مضمار العمارة أو التصميم أو المواقع الحضرية قابلة لخلق تفاعلات اجتماعيّة وحسيّة. مثلاً، أثناء التصميم، نختبر المواد الخام؛ قوتها وحدودها، الأمر الذي يجعل العمل يتطوّر بصورة تلقائيّة خلال التنفيذ، مع كل ما يكتنف ذلك من مفاجآت وحوادث على طول الطريق. كما نصبو عبر التقنية إلى ابتكار تصاميم تعبّر عن تداخل الطبيعة بعمل الإنسان، وعن أشكال فوضويّة وأخرى محدّدة، وعن عشوائية ودقة، وروح ومادة.. علماً أن طريقة العمل رهن بكل مشروع.
نعم؛ هناك تلميح لهذا الأمر بطريقة أو بأخرى، وذلك لأننا نحاول على الدوام فهم التقاليد والتراث الثقافي، والبحث عن كيفيّة المساعدة في الحفاظ على هذه الجوانب، كما تكييفها مع أسلوب حياتنا المعاصر.
نحاول على الدوام فهم التراث الثقافي وتكييفه مع أسلوب حياتنا المعاصر
أجزاء متسقة
تلقيتما تقديراً عن مجموعتكما من طاولات القهوة المعنونة «أجزاء متسقة» Reconciled Fragments؛ هل تهدفان إلى التلاعب بالمواد في إطار إعادة التدوير؟
تُعرض المجموعة راهناً في «باد» بلندن PAD London، بالتعاون مع «غاليري غوسيريز» Galerie Gosserez، وهي نتاج بحث عن مواد جديدة من خلال جمع وإعادة تدوير المواد المتحللة والمجزأة من أجل إعادة تكوينها في وحدة أخرى. فقد قمنا باسترجاع مخلّفات المصانع المحلية المحيطة ببيروت، من قطع الحجر والمسحوق الناتج عن الاشتغال في المعادن من نحاس ونحاس أصفر وألمنيوم، مع نثر هذه البقايا على قالب خشبي مسطح، للوصول إلى شكل عضوي لاحقاً. يبدو القالب كأنّه لوحة قماشيّة. ثمّ، سكبنا مادة الراتينج في القالب وحوّلنا قوام المواد المختلفة إلى صلب، بوساطة شعلة تسخين البروبان، وذلك لجعل المواد المختلفة تتآلف في نسيج واحد منقوش. بعد التصلب، قطعنا لوح الراتينج إلى سماكة 3 سنتيمترات، مع التصنيع اليدوي، بعناية، لشطب الحواف إلى 5 ميلليمترات، والسماح بتبيان شفافية المواد الموزّعة على طبقات مختلفة.
يمثّل ما تقدّم سطح الطاولة التي تتكئ على قوائم مصنوعة من البرونز أو النحاس أو النحاس المؤكسد، علماً أن كلّ طاولة هي قطعة فريدة من نوعها ومصنوعة يدويّاً بالكامل من الحرفيين ومنّا.
ما هي مشاريعكما الحاليّة وفي المستقبل القريب؟
لقد افتتحنا المعرض الفردي الأوّل لنا أخيراً، في البندقية، بعنوان I Hear You Tremble، وقد صمّمناه تحت رعاية وشراكة معرض جديد في القاهرة هو «لو لاب» Le LAB. و«سيسافر» معرضنا إلى نيويورك، وتحديداً إلى «صالون آرت + ديزاين نيويورك» Salon Art + Design New York، في نوفمبر الجاري. كما نعمل راهناً على مشروع في جادة «السركال» بدبي يركّز على تنشيط المساحات العامّة وجعلها خضراء وكثيرة الأنشطة التفاعليّة. نحن أيضاً بصدد الانتهاء من فيلمنا القصير الخامس المتعلق باستلهاماتنا لمجموعة «أجزاء متسقة»، كما نقوم بوضع اللمسات الأخيرة على مشروع سكني في البندقية.
في هوى «الموارنو»
من جهة ثانية، كان من الحتمي إبراز الروابط بين الثقافات والمعرفة المشتركة بصناعة الزجاج بين بحيرة البندقية والشرق الأوسط ومصر القديمة.
في النظر إلى تاريخ الزجاج، يتبيّن أن اكتشافه الأول يرجع إلى 1500-300 قبل الميلاد، وإلى الفينيقيين، حينما قاموا بصهر بعض المعادن والرمل في الساحل الشمالي لسوريا، ما أدى إلى ولادة هذه المادة الجديدة.
في المعرض، هناك سلسلة من 15 وعاءً منحوتاً مستلهمة من الجرار الأثرية التقليدية والأفاريز وغيرها من الأشياء المصنوعة من الزجاج المنفوخ الموضوعة في المقابر لتقديم القرابين في العصور القديمة. أثناء نفخ الزجاج، طبقت تقنيات عدة. الهدف من المعرض، حسب تارا، هو جعل الزائرين يشعرون بشعور غامض إزاء المصنوعات ذات العلامات المرئية الدالّة إلى المعاصرة من خلال شكلها وملمسها، كما إعطاء انطباع عن القطع الأثرية المحفورة من قرن مضى.
قبل «الجرار» أي خلال التجارب الأولى على زجاج المورانو، دمجت الشقيقتان بالمادة الأخيرة الخيوط المعدنية المتأتية من مخلّفات المصانع المحيطة بورشتهما. في النتيجة، كانت المادة الجديدة عبارة عن نسيج منقوش وغير متماثل استُخدم في تصميم أول مجموعة «مورانو» عبارة عن قوارير بعنوان «الرحّل» Nomads. ثمّ، اكتشفت الشقيقتان لاحقاً الإلهام في أدوات المائدة التقليدية، وصممتا مجموعة من الأطباق وأكواب الشراب لتلائم وليمة «المازة» اللبنانية. حملت المجموعة عنوان «خيوط التذوّق» Tasting Threads.
في التجارب اللاحقة، كانت الشقيقتان تزوران مصانع المعادن المحلية في مورانو عند شروق الشمس، لجمع نفايات الألمنيوم والنحاس والنحاس الأصفر، ونقلها إلى الفرن الزجاجي المجاور، للاختبار، مع تحدي التقنيات التقليدية المستخدمة في نفخ الزجاج وتحقيق مواد جديدة، بالتعاون مع الحرفيين وخبراء الزجاج الموهوبين. أسفرت التجارب عن مجموعة واسعة من التكوينات، حيث لا يمكن فصل الزجاج عن المعدن، ما يسمح للضوء بالترشيح من خلال شفافية المادة الجديدة التي تعكس ظلالاً غامضة.
في سطور...
بدأ تعاون الشقيقتين تيسا وتارا ساخي، في مجال التصميم، على مقاعد الجامعة، حينما درستا معاً لمدّة عام في «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا) ببيروت، فكانتا تشتركان في العمل على المشاريع الجامعيّة. ذات يوم من عام 2015، عُرض على الشقيقتين مشروع تصميم داخلي سكني ببيروت؛ سنتذاك كانت تارا تعمل في مكتب بـ «نيويورك»، فيما كانت تيسا تنهي دراستها وتجري تدريباً للتصميم الداخلي ببيروت. تقول تارا لـ «سيدتي»: «لقد تأسّست شراكتنا بشكل طبيعي، لكن لم نكن ننظر إلى هذه الشراكة على أنّها مهنيّة، بداية. شيئاً فشيئاً، توضّحت الرؤية، وأصبحت تتركّز على ما كنا نفعله معاً ونبنيه بنشاط». وتضيف: «تمثّل الشراكة فصلاً جميلاً وتحدّياً مثيراً للاهتمام في حياة كلّ منا؛ يتعلق الأمر أكثر بالأخوة والإنشاء معاً، وليس بشراكة مهنيّة فحسب».