يُعرّفُ النقاش بأنه شكل من أشكال التواصل والتفاعل العفوي بين شخصين أو أكثر، ويتم وفق قواعد آداب معينة، ويُدرج ضمن علم الاجتماع الذي يدرس هيكل التفاعل الإنساني وتنظيمه، لكنه يركز بشكل أكثر تحديداً على التخاطب.. ويمكن أن يتناول النقاش مختلف المواضيع والأحداث ويوميات الحياة... إلخ. ولكن، هل توجد بعض الجوانب التي لا نفضل مناقشتها مع الآخرين؟.. كثير من الناس قد يفضلون الاحتفاظ ببعض القناعات في دواخلهم من دون نقاشها مع الآخر، لسبب من الأسباب. هذه التساؤلات طرحناها على عدد من الشباب والشابات، فماذا كانت آراؤهم؟
الشرقية | سمية آلخير Somia AlKhair - بيروت | عفت شهاب الدين Ifate Shehabdine
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad - القاهرة | أيمن خطاب Ayman Khattab
تونس | مُنية كوّاش Monia Kaouach
د. حسين الخباز: أؤمن بالعقل ولا أتعامل مع من يبرر الأفعال غير الأخلاقية
توجد أمور كثيرة في الحياة نؤمن بها ولا نناقشها مع الآخرين، مفضلين الإبقاء على قناعاتنا، ولفت د. حسين زكي الخباز إلى أنه لا يكاد يملك اليقين الكامل حول أي فكرة؛ لاعتقاده بعجز الدماغ البشري عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة، فهي (أي أدمغتنا) تنخدع بالكثير من الأحيان بما يردها من الحواس، كما تميل أدمغتنا إلى الوقوع في فخ الكثير من الأخطاء في التفكير والمعالجة بما يسمى «المغالطات المنطقية».
أوضح الخباز قائلاً: «مثلاً، قد أؤمن بخيرية أخلاق، كالعفة، والأمانة، والصدق، والحب، والصبر، كما أؤمن بسوء أخلاق أخرى كالظلم، والغلظة، والكسل، ونقض الوعد كصفات سيئة، وهنا لا يمكن أن أقف في المنتصف، وأقبل النقاش والتلون في هذه الفكرة؛ إذ لا أميل إلى التعامل مع من يغيرون مواقفهم ويؤولون الأحداث لتبرير أفعالهم غير الأخلاقية».
الاحتكام إلى العقل
تابع الخباز: «كما أؤمن بالاحتكام إلى العقل، والمعالجات المنطقية للأمور، وفق منهجية العلم التجريبي الحديث، ولا أقبل النقاش هنا، وإهمال العقل بحجة قصوره وعجزه، فمثلاً معظم الحوادث لا بد لها من سبب منطقي لحدوثها».
التاريخ لا يرحم
قال الخباز: «أؤمن بقدرة التاريخ على محاكمة الأشخاص والمجموعات، ولا أقبل النقاش في هذه الفكرة، فالجميع يستطيع قول ما يريد، وادعاء ما يريد، والأجيال الجديدة تلك التي لم تشهد التاريخ يمكن خداعها بسهولة، كما يمكن للأشرار التشبه بالأخيار أو ادعاء تغيّر مسارهم وتوبتهم، وفي هذه الحالة لا ينبغي للحكماء أن ينخدعوا بتلك الادعاءات من دون دليل من التاريخ؛ إذ في الكثير من الأحيان ستكون الأيام كفيلة بكشف المستور، وإظهار ما يخفيه أولئك المتحايلون».
اختتم الخباز حديثه: «أيضاً لا أقبل النقاش عندما يفشل أحدهم في مهمة عمل مرات عدة، فليس من المنطق، تصديق دعواه بقدرته على النجاح هذه المرة؛ إذ عندما تعتاد الكذب من أحدهم، فليس من الحكمة تصديقه بسهولة في المرة الأخيرة، لمجرد أنه تظاهر بالصدق والتوبة والندم، فهكذا أرى الأمور ووفق ذلك النموذج الذهني أتصرف».
تابعي المزيد: ما هو فن المناظرات؟
الاختلاف الثقافي
فرح القاضي: أحاول أن أحافظ على ديبلوماسيتي، وأتجنب الجدال، خاصة مع كبار العائلة والأقارب
تقول فرح القاضي، شابة إعلامية مغربية مقيمة في بلجيكا: إن المواضيع التي لا تخوض فيها عادة تتعلق بالاختلاف الثقافي، فبحكم حياتها في أوروبا تجد هوة كبيرة في تناول بعض أمور الحياة اليومية مع الجيل القديم من المغاربة الذين لم يواكبوا التطور الاجتماعي الحاصل. فعلى الرغم من حياتهم في أوروبا سنين طويلة ظلوا منغلقين جداً، خاصة في النظرة إلى المرأة بخصوص حياتها المستقلة، وتوقها مثلاً للطموح العلمي، وحتى نظرتهم إلى الزواج. لذلك تقول: «لا أحب الخوض بتاتاً في هكذا نقاش؛ لأنه يؤدي إلى طريق مسدود في الغالب. لذا، أحاول ما أمكنني أن أحافظ على ديبلوماسيتي، وأتجنب الجدال، خاصة مع العائلة والأقارب الذين يكبرونني سناً وأكن لهم الاحترام. كما أحاول احترام آراء وأحكام جاهزة، خاصة في العلاقة مع الصداقات مع الذكور التي ينظر إليها للأسف بنوع من السلبية المتجاوزة في علاقة الرجل بالمرأة اليوم».
وتضيف: «بالنسبة إليّ كل الأمور يجب أن تناقش وبحرية، خاصة حينما يتعلق الأمر بمبادئ وأفكار تؤمن بها، كقضية المرأة، وقيم الكرامة، والعدالة. أحياناً، نتجنب بوصفنا شباباً قادمين من ثقافة أخرى الحديث في مواضيع الساعة مع أصدقاء وصديقات أجنبيات، حتى لا نخسر المودة والعشرة التي تجمعنا في بلد واحد. على العموم، ومع الوعي شخصياً، أتفادى النقاشات التي تجعلني أخسر فيها أناساً أحبهم، سواء من عائلتي أو أصدقائي»، تستدرك: «أسعى إلى إقناع أحد ولا أحكم على أحد. أعيش بعيداً عن أي جدل عقيم وأفضل لغة التواصل والمحبة؛ لأننا مختلفون، وعلينا أن نلتقي في مساحة بيضاء نقية لأجل التعايش والتسامح، شرط أن يبادلني الطرف الآخر الاحترام نفسه».
أفكار ومعلومات خاطئة
خليل الكعكي: الصحة النفسية من أهم المواضيع المطلوب مناقشتها
يقول خليل الكعكي، (17 عاماً)، طالب لبناني في الثانوية العامة: «إن الصحة النفسية موضوع محظور في العديد من المجتمعات، وخاصة الشرق الأوسط. ومع ذلك، فمن المتعارف عليه عالمياً هو أن الرجال يحبون أن يبدوا أقوياء دائماً، ولا يظهروا أي علامة من علامات الضعف، وأن يرتدوا وجهاً شجاعاً حتى عندما يواجهون تحديات كبيرة. وعلى الرغم من شدّة تمسّكهم بالرجولة التقليدية، لكنهم قد يشعرون بالحاجة إلى التحدّث مع الآخرين في بعض الأحيان، وإلى شخص يستقبل آراءهم ومشاعرهم من دون أن يحكم على أقوالهم وتصرّفاتهم، بل أن يقدّم لهم النصائح الضرورية من دون أي صعوبة أو حتى الشعور بالإحراج أو الخجل كما هو شائعاً، ولكن للأسف، هناك جزء كبير من المجتمع مقتنع ببعض الأفكار والمعلومات الخاطئة، وهو يستهزئ بأهمية الصحة النفسية، ولا يأخذها على محمل الجد، مثلها مثل الصحة الجسدية مثلاً، أو حتى الصحة العقلية».
زمن مفتوح
ويضيف خليل قائلاً: «أتمنى من الناس فتح مجال المناقشات على مصراعيها، والخروج من العزلة الاجتماعية التي يعيشون داخلها، فالزمن الذي نعيشه هو زمن مفتوح على جميع المواضيع والأحداث، خاصة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي المنوّعة والمختلفة التي باتت تلعب دوراً رئيسياً ومهماً في حياتنا، شئنا أو أبينا، وعدم الاستخفاف بضرورة اللجوء إلى الصحة النفسية عندما تستدعي الحاجة إلى ذلك. الصحة النفسية جزء لا يتجزّأ من الصحة، وبالفعل، لا تكتمل الصحة من دونها؛ لأنها تتأثّر بالعوامل الاجتماعية الاقتصادية والبيولوجية والبيئية.
الصحة النفسية هي حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلّم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي. وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان القدرات الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات، وإقامة العلاقات، وتشكيل العالم الذي نعيش فيه. والصحة النفسية هي حق أساسي من حقوق الإنسان.
في كل مرحلة من مراحل نموّنا، نواجه متاعب ومشاكل خاصة تؤثر في صحتنا النفسية، وهو أمر طبيعي. غير الطبيعي هو أن تقف هذه المتاعب والضغوط عائقاً أمامنا من دون حلّ، وتتراكم عاماً بعد عام، حتى يصعب علاجها في فترة ما، فمثلًا انتقال الفرد من مرحلة الطفولة إلى المراهقة يعني التغيّر في الانتماء، فهو الآن ينتمي إلى جماعة الكبار؛ ما يستلزم التكيّف مع الوضع الجديد. ويقتضي من الفرد إعادة النظر في الأساليب الطفولية السابقة، وبناء نماذج تتفق مع حياة الكبار، كحاجته إلى نوع جديد من العلاقات ونمط مختلف من التعامل لم يعهده. لا شكّ أن هذه التحدّيات إلى جانب رغباته وحاجاته التي تتغيّر ويحتاج إلى إشباعها، قد تؤثر في الصحة النفسية، ومدى تقدير واحترام الذات. إذا لم يتم الاعتناء بالصحّة النفسية، تظهر مشكلات متعدّدة، مثل الانعزال والاكتئاب والعدوانية والنزعة، وغيرها...».
تابعي المزيد: شبان وشابات يجيبون.. هل يعكس المظهر الخارجي الشخصية؟
أهمية توقيت خوض النقاش
محسن موسى: لا يوجد مجال في حياة الفرد لا يمكن مناقشته
يشير محسن موسى، طالب في كلية تجارة القاهرة، إلى أن الإنسان كائن اجتماعي، فلا يوجد أي مجال في حياة الفرد مرفوض النقاش فيه، لكن الأمر كله في يكمن في التوقيت، والمساحة التي بين الشاب والأبوين مثلاً، أو أي شخص آخر، هي التي تتيح أو تمنع المناقشة، يستدرك: «ففي كثير من الأحيان توجد مناقشات في أدق أسراري مع بعض أصدقائي، ولا يمكن أن أتفوه بها أمام والدي، لوجود حاجز التبجيل لهم، وخجلي في الحديث معهم في أمور، مثل: صديقات لي، وعواطف بيني وبينهن، وبعض الأحلام الخيالية التي تراود فترة الشباب، لكن مراحل التعليم أكسبتنا المناقشة في مكانها الطبيعي، ففي مرحلة الخطوبة، مثلاً، يحاول الرجل والمرأة التعرف إلى بعضهما بأكبر قدر ممكن، ويحتل الجزء العاطفي المساحة الأوسع، لكن الانشغال بها وتجاهل الموضوعات المهمة الأخرى يتسبّب في اصطدام الطرفين عقب الزواج، خاصة بعد انطفاء مشاعر وشغف البدايات، هنا يكون النقاش البناء في تلك الأمور؛ لأنها بالفعل مهمة لاستمرار الحياة، ويأتي دور التعليم والأسر لإكساب الأبناء مثل هذه الأمور لاستمرارية الحياة لديهم».
أمور طارئة
ويوضح أن بعض الأمور الطارئة تفرض على الشاب، مثل رفضه للمناقشة، مثل حالة الوفاة التي ألمت بي خلال رحيل والدي، فكنت أرفض أي مناقشة مع الأشخاص المحيطين بي، سواء من أفراد الأسرة أو الأصدقاء، ففي هذه الحالة تغلبت عاطفة الفقد، لدرجة جعلتني لا أطيق أن يناقشني أحد للخروج من هذه الحالة؛ حيث أصبحت شخصاً يحاول بتر حالة الحب الشديد بيني وبين أبي الراحل، وهو ما كنت أتغلب عليه بالانفراد بنفسي من دون السماح لأحد بالتحدث معي.
أمر آخر بصفتي شاباً لا أحب مناقشته مع كل من يكبرني، وهو مسؤول عني، وهي بعض الأمور العاطفية التي لا أستطيع التحدث عنها بحضورهم؛ لأنها مشاعر عاطفية أعتقد بأن أولياء الأمور دائماً ما يستهينون بها إذا كانت نابعة من الشباب، ويعدونها مراهقة فكرية، فمثل هذه الأمور مباحة فقط لمن هم في مثل عمري، سواء كانوا من الأسرة أو من الأصدقاء.
وهناك بعض الأمور التي أرفض مناقشتها مع الجميع، خاصة التي تتعلق بنفقاتي الشخصية، ومطالبي من أسرتي لبعض المصروفات الضرورية التي أحتاج إليها في التعليم، فهي مجرد مطالب غير متاح فيها المناقشة والأخذ والرد، على الرغم من أن أسرتي دائماً ما يكون بها بعض التفضيلات، ومع ذلك لا أحب المناقشة فيها.
قلة الحديث جيدة
قمر الزّمان العكريش: من واقع التجربة أختار الصمت لأحمي نفسي من الإحباط
قمر الزّمان العكريش، (23 عاماً)، طالب تونسي بالمعهد العالي للدّراسات التكنولوجيّة، أصبح حذراً من الحديث، وذلك ليتمكن من الحصول على ما يحتاج إليه في الوقت المناسب؛ ما جعله قليل الحديث عن خياراته وأهدافه وميولاته.
ضرب قمر الزمان مثلاً بتجربة مرّ بها، فقد كان ينوي الانضمام إلى المعهد العالي للمسرح، وتناقش في هذا الموضوع مع أصدقائه وأقاربه، فتكتّلوا جميعا لتخويفه وإثنائه عن قراره وإقناعه بأنّ اختياره لم يكن صائباً، ونجحوا في التّأثير فيه، فتخلّى عن قراره، متوجّهاً توجّهاً علميّاً، لكنّ حبّه للمسرح ظلّ يرافقه، فاتجه لتعلّم المسرح في معهد خاص.
يقول قمر الزّمان: «تعلّمت من هذه التّجربة درساً في العلاقات الاجتماعية، وآليت على نفسي ألّا أتحدّث وأتناقش عن مشاريعي ومخطّطاتي المستقبليّة للأقرباء والأصدقاء، فها أنا أنوي مواصلة دراستي خارج الوطن، ولم أتحدّث لأحد في هذا الموضوع، فقد اقتنعت بجدوى التكتّم، وعدم إخبار الآخرين بالقرارات الخاصّة، حتّى لا أترك لهم الفرصة للتدخّل في شؤوني الخاصّة، وأحمي نفسي من محاولاتهم التّشكيك في قدراتي، وفي جدوى أهدافي، بغية إحباطي واستنزاف طاقاتي والتّقليص من حماستي».
خطوط حمر
يرى قمر الزّمان أنّ التّعامل مع الآخرين ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّ طباعهم تختلف عن طباعه، لكنّه مطالب بالتّعايش والتّعامل معهم، لذلك قرّر أن يتعامل مع المحيطين به بذكاء لبناء علاقات إيجابيّة، فرسم بينه وبينهم حدوداً واضحة لا يسمح لنفسه بتجاوزها ليحمي عالمه الدّاخليّ، فلا يتدخل أحد في حياته، ولا يتدخّل هو أيضاً في حياة غيره، فيتجنّب بذلك بعض السّلوكيات الضّارّة والمسيئة والنّاتجة من التسرّع في الحكم وسوء الفهم والتّأويل الخاطئ.
ويستطرد: «أصبحت أكتفي في حديثي ونقاشي مع الآخرين بمواضيع مشتركة وعامّة، وأتفادى الحديث في خصوصياتي ومشاعري وخياراتي، حتّى لا يؤثر الآخرون في توجّهاتي، ولا يحدّوا من حرّيتي، فأحيا كما أريد لا كما يريدون، مكتفياً بوالديّ للحديث عن شؤوني الخاصّة، فلا أتردّد أبداً في إخبارهما واستشارتهما في كلّ جزئيات حياتي، فهما من ساعداني على التخلّص من الخوف، وعلى المضيّ قدماً في تحقيق أحلامي، وهما الوحيدان اللّذان لن يخذلاني أبداً».
تابعي المزيد: جيل Z: نفخر بزماننا ونبحث عن فرص تناسب إمكانياتنا