«مالئ الدنيا وشاغل الناس»، كذا هو «تشات جي بي تي»، البرنامج الذي تكاد لا تخلو أي مطبوعة أو منصة أو موقع عن خبر عنه. البرنامج وليد تقنية ثورية تُعرف باسم الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهو قادر على إنشاء نص ومحتوى بناءً على التعليمات أو الأسئلة الموجهة إليه، من المستخدم، وذلك في ميادين شتى. لكن، تنقسم الآراء حول البرنامج، بين تمجيد لإيجابياته في تسهيل الحياة، وتوسيع المعارف، وتوليد الوظائف التي لم نكن على علم بها من قبل، في مقابل اتهامه بالتحيز وبالتسبب بالبطالة، وبامتداد أذرعه إلى حيث لا يحمد عقباه، وبالتأثير سلباً على الخصوصية... في هذا الملف، تبحث «سيدتي» في إمكانات «شات جي بي تي»، الهائلة، مع المرور على مستقبله.
أعدت الملف وشاركت فيه | نسرين حمود Nisrine Hammoud
بيروت | عفت شهاب الدين Ifate Shehabdine وماغي شمّا Maguy Chamma
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad
الرياض | محمود الديب Mahmoud AlDeep
من المؤكد أن العالم قبل هذه التقنية ليس كما بعدها، وعنها، يقول أساطين التكنولوجيا والاستثمار، ومنهم بيل غيتس إن «لها نفس أهمية اختراع الإنترنت»، فيما يبدي وارين بافيت، حسبما ذكرت صحيفة «نيويورك بوست» بعض القلق حيالها. يقول المستثمر بافيت إنه «عندما تستطيع أداة ما القيام بكل أنواع الأشياء، أشعر بالقلق قليلاً؛ لأنني أعلم أننا لن نكون قادرين على إلغاء هذا الاختراع»، مضيفاً: «لقد اخترعنا، لسبب وجيه للغاية، القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية»؛ أي إن الذكاء الاصطناعي المستخدم في الوقت الراهن لمصلحة البشرية قد يأتي يوم ويستخدم لتدميرها. لناحية إيلون ماسك، وبعد الارتفاع السريع لشعبية «شات جي بي تي»، دعا إلى تنظيم التكنولوجيا، ووقع خطاباً مفتوحاً حث فيه قادة التكنولوجيا على التوقف لمدة 6 أشهر عن تطويرها، لكن للمفارقة هو صحح في ما بعد التقارير التي أفادت أنه يعتزم بناء شركة للذكاء الاصطناعي!
ما هو شات جي بي تي؟
«شات جي بي تي، برنامج للمحادثة الذكية، مبني على أحد نماذج الذكاء الاصطناعي، ومطور من شركة OpenAI في نوفمبر 2022. وهو يقوم بالإجابة السريعة والمتسلسلة والمُقنعة عن أي تساؤلٍ في أي مجالٍ كان، مع استلهام تلك الإجابات من ارتباطه بقاعدة بياناتٍ ضخمة، مع ضرورة الإشارة إلى أن أحدث البيانات المستخدمة في الإجابات يرجع إلى عام 2021»؛ بذا، تُعرّف الدكتورة أسيل بنت عبد المحسن الداود، مستشارة الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في وزارة الطاقة السعودية، «شات جي بي تي»، منبهة من تلفيق البرنامج إجابات غير صحيحة، بناءً على معلوماتٍ غير مكتملة. إضافة إلى الإجابة عن أي سؤالٍ مهما كانت غرابته؛ إذ يقوم البرنامج بكتابة الأكواد البرمجية، وتصحيحها، ونظم الأشعار والأغاني، وحلّ الواجبات والقصص، وترجمة المقالات وتلخيصها. وقد يقوم بدور المتخصص النفسي الشخصي، أيضاً.
100 مليون مستخدم
تكشف الدكتورة أسيل عن أن «مجانية استخدام برنامج المحادثة ساعدت على سرعة انتشاره، ووصوله إلى أكثر من 100 مليون مستخدمٍ في غضون شهرين، مقارنةً ببرامج مشهورة أخرى، مثل: تيك توك الذي كان في حاجةٍ إلى تسعة أشهر للوصول إلى عدد المستخدمين المذكور».
حول مدى شمولية إجابات شات جي بي تي، تذكر المستشارة أنه «على الرغم من تعدّد استخدامات البرنامج، فإنه لا يزال مقيّداً؛ إذ لا يقدر على الإجابة عن الأسئلة المصاغة بطريقةٍ معينة، بل يتطلّب إعادة الصياغة لفهم السؤال المطروح، كما يتمثّل أحد القيود الكبرى في الافتقار إلى الجودة في الردود التي يقدمها، فقد تبدو الأخيرة أحياناً معقولةً، لكنها لا تعني شيئاً عملياً، أو يمكن أن تكون مطوّلة بشكل مفرط. عوضاً من طلب توضيح الأسئلة الغامضة، يُخمّن النموذج ما يعنيه سؤال المستخدم؛ ما قد يؤدي إلى ردود غير مقصودة على الأسئلة». قد تشتمل مخاطر استخدام «شات جي بي تي»، على تقديم إجابات ضارّة بالناس والمجتمعات، مع بحث المستخدم عن الثغرات الحاسوبية لأنظمةٍ حسَّاسةٍ دولية، مثلاً. بالمقابل، هو يقوى على تسهيل حياة الناس، والمساعدة على أداء المهمات الشاقة اليومية، مثل: كتابة رسائل البريد الإلكتروني، والتنقل عبر الإنترنت للحصول على إجابات، لكن يجب معرفة بعض التفاصيل الفنية عنه قبل استخدامه على نطاق واسع لمنع النتائج السلبية، مثل انتشار المعلومات المضلِّلة. بشكل عام، تحتاج نماذج الذكاء الاصطناعي إلى كثير من التدريب والضبط للوصول إلى مستوى الأداء المثالي، ويتضمّن ذلك صحة وشمولية البيانات المُدخلة كيلا يكون هناك انحياز في النتائج والإجابات، حسب شروح المستشارة.
يمكنك قراءة المزيد عن الذكاء الاصطناعي في التعليم.. بين مؤيد ومعارض
«مساعد شخصي»
عن الفروق بين «شات جي بي تي» وأي محرّك بحث آخر (غوغل، مثلاً)، يقول بول سمعان، الخبير في التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، لـ«سيدتي»: إن «شات جي بي تي يمنح المستخدم إجابات محددة، بالاتكاء على عدد هائل من المعلومات، فيما محرّك البحث يكشف عن مواقع عدة فيها الإجابات»، مع تكرار الإشارة إلى أن «معلومات شات جي بي تي تقف عند عام 2021، لذا لا يمكن سؤال البرنامج عن أحداث راهنة».
ويضيف أن «شات جي بي تي وافر بالمعلومات المخزنة فيه، التي تمتد إلى مجالات منوعة، ومنها: الرياضة، والتاريخ، والفيزياء... لكن، يحذر الخبير من معلومات البرنامج المغلوطة التي تعرف بالـ«هلوسة»، ومن سوء استخدام مقرصني الإنترنت البرنامج لأهداف سيئة، كما من انحياز البرنامج في إجاباته. ويوسّع الفكرة، قائلاً: إن «شات جي بي تي صُنع في الولايات المتحدة الأميركية؛ الأمر الذي يُفسّر منع دولة الصين من استخدام البرنامج على أراضيها».
حسب سمعان، يستطيع العاملون في المجالات المهنية المختلفة الإفادة من البرنامج، الذي يعده بمنزلة «مساعد شخصي»، مثلاً: في مجال الصحافة هو قادر على كتابة المقالات في كل الموضوعات، وتصحيح المقالات، مع ملاحظة اعتماد «شات جي بي تي» في بعض المؤسسات، مع تنبيه المستخدمين من عدم مشاركته معلومات شخصية.
أذكى من البشر؟
سؤال الخبير عن خبر نقد الأب الروحي لـ«شات جي بي تي» جيفري هينتون للبرنامج واستقالته من «غوغل»، يعلق عليه، بالقول إن «هينتون يحذر من مخاطر الذكاء الاصطناعي، خصوصاً بعد تطويره في شركات بالجملة من دون الاكتراث إلى خطورته، وعدم معرفة إلى أين سيصل في المستقبل؛ إذ يمكن بعد أعوام أن يخدع البشر، أو يؤذيهم ليحافظ على وجوده. لذا، يجب وضع تشريعات، وتحلي الشركات والدول بالوعي عند تطوير هذه التكنولوجيا، علماً أن الذكاء الاصطناعي أذكى من البشر».
ومن عالم التكنولوجيا أيضأً اخترنا لك قراءة المنافسة بين جوجل وتشات جي بي تي... كيف وصفها أهل الاختصاص ولمن النصر؟
مصير 300 مليون وظيفة
يُشارك الخبير سمعان القرّاء التقرير الصادر عن «غولدمان ساكس»، المجموعة العالمية الرائدة في تقديم الخدمات المصرفية الاستثمارية وإدارة الأوراق المالية والاستثمارات، في أواخر مارس (2023)، والذي يوضّح أن نحو 300 مليون وظيفة ستتأثر بالذكاء الاصطناعي، ويلفت إلى «أن هناك مهناً ستزول مع التطور، لكن في الوقت عينه ستولد مهن جديدة»، داعياً العاملين في المهن التي يتوقع أن تزول أن يتعلموا كيفية مخاطبة الذكاء الاصطناعي لمواكبة التطور الذي لم يعد خياراً اليوم».
عن الوظائف أيضاً، تُشارك د. نور الهدى الشاوي، الخبيرة في التحول الرقمي والتكنولوجيا الغامرة في المدرسة العليا للتكنولوجيا، بجامعة ابن طفيل القنيطرة، القراء تقريراً حديثاً صادراً عن «المنتدى الاقتصادي العالمي»، يتوقع أن يتغير نحو 23 % من الوظائف خلال الأعوام الخمسة المقبلة؛ الأمر الذي سيؤدي إلى نمو بنسبة 10.2 % في بعض القطاعات، وإلى انخفاض، بالمقابل، بنسبة 12.3 % في وظائف أخرى. يكشف التقرير، استناداً إلى ردود 803 شركات شملها الاستطلاع، أن أصحاب العمل يتوقعون خلق 69 مليون وظيفة جديدة، وإلغاء 83 مليون وظيفة من أصل 673 مليون وظيفة مدرجة في البيانات. وسيؤدي ذلك إلى خسارة صافية قدرها 14 مليون وظيفة، أو نحو 2 % من العمالة الحالية. في تحليل للأرقام، تشرح الدكتورة الشاوي أن «التغييرات المذكورة ليست مدفوعة بالتكنولوجيا فحسب، بل أيضاً بالتحديات الاقتصادية، مثل: التضخم المرتفع، وتباطؤ النمو الاقتصادي، ونقص العرض؛ ما يشكل التهديد الرئيس».
وتُضيف أنه «في الوقت نفسه، تقوم الاتجاهات الكبرى، مثل: التحول الأخضر، ومعايير ESG (الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات)، وتوطين سلاسل التوريد دوراً رئيسياً في نمو الوظائف. باختصار، هذه السلسلة من التغييرات هي نتيجة مجموعة من العوامل المترابطة». وترجع د. الشاوي إلى أعوام سابقة، عندما كانت هناك مخاوف بشأن ثورة الروبوتات واستبدال العمال الصناعيين بها، بما في ذلك الفصول الدراسية والمستشفيات. مع ذلك، لم تتحقق هذه المخاوف، لتوصل الرسالة الآتية: «يواجه البشر موقفاً مشابهاً، مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي والجنون الناتج من «شات جي بي تي»، لكن ما يحدث راهناً ليس ثورة تكنولوجية، بل اعتماداً على الاستخدامات الجديدة لبرامج مثل ذلك المذكور، تُثار مجموعة من الأسئلة والمخاوف، علماً أن الأسئلة عينها برزت خلال الموجة السابقة للضجيج حول الذكاء الاصطناعي، وذلك في الفترة بين 2016 و2017».
أوهام...
تخلص إلى أن «الذكاء الاصطناعي قائم بالفعل، والثورة مندلعة بالفعل. مع ذلك، فإن طريقة النقاش الدائرة قد ترجع إلى الفهم الخاطئ، وهي تخلق أوهاماً حول ذكاء اصطناعي قوي ومستقل وخبيث تجاه الإنسانية. لذا، من الضروري تأطير النقاش، وإبعاد أنفسنا عن هذه السيناريوهات الخيالية، والنظر إلى الفرص والتحديات الحقيقية التي يطرحها الذكاء الاصطناعي». هناك آفاق واعدة لخلق فرص عمل في قطاعات جديدة، ولتحسين جودة الوظائف الحالية من خلال التكنولوجيا، بحسبها. فمن المهم أن تأخذ الحكومات والشركات والأفراد هذه التغييرات في الاعتبار، وأن تعمل الأطراف المذكورة معاً للتكيف والتأكد من مشاركة فوائد التكنولوجيا على نطاق واسع. يمكن أن يشمل ذلك استثمارات في التدريب، وتنمية المهارات للوظائف الناشئة، وسياسات لحماية العمال.
ونحدثك بالسياق التالي عن وظائف بشرية مهددة بالزوال خلال الثلاث سنوات المقبلة بسبب "الذكاء الاصطناعي"
«شات جي بي تي» والتعليم
عن توظيف «شات جي بي تي» في التعليم الجامعي، يتحدّث الدكتور يوسف باسيم، مدير العمليات التنفيذية ومستشار الرئيس للشؤون الطبية في جامعة البلمند بلبنان، لـ«سيدتي»، فيوضح أن «شات جي بي تي» تقنية ثورية تستخدم خوارزميات لتوليد ردود شبيهة بالردود البشرية على كل الاستفسارات؛ ما يجعل التقنية أداة مثالية لأساتذة الجامعات والطلاب. ويفصّل الأكاديمي كيفية تغيير هذه التكنولوجيا لمشهد التعليم، فيقول: «إن هناك تحسيناً لإمكانية الوصول إلى المعلومات والموارد في الوقت الفعلي؛ الأمر الذي يفيد منه الطلاب المقيمون في مناطق نائية، أو أولئك الذين لديهم إعاقات تجعل من الصعب عليهم الوصول إلى الموارد التعليمية التقليدية».
لناحية السلبيات، يقول الأكاديمي إن هناك خطراً من حدوث أخطاء أو عدم الدقة في المخرجات، فقد يتسبب ذلك بمشكلة عند استخدام التقنية لتقدير الواجبات أو تقديم ملاحظات نقدية للطلاب. أضف إلى ذلك، هناك، التحيّز؛ أي تقديم نتائج غير عادلة أو تمييزية.
لذا، يجب أن تتخذ الجامعات خطوات لضمان تدريب التقنية على مجموعات بيانات منوّعة وشاملة. من جهة أخرى، لا يمكن لـ«شات جي بي تي» أن يحلّ محل التفاعل البشري والدعم الشخصي الذي قد يحتاج إليه الطلاب للنجاح في مساعيهم الأكاديمية. وهناك اعتبارات أخلاقية مهمة يجب مراعاتها عند استخدام التقنية المذكورة ونماذج اللغة الأخرى، لا سيما في ما يتعلّق بقضايا الخصوصية وحماية البيانات. كما يندرج تحت السلبيات أمر الاعتماد الزائد على «شات جي بي تي» في التقليل من مستوى الاستيعاب والتفاعل الاجتماعي والثقافي بين الطلاب. إلى ذلك، يؤدي ترك القرارات الأكاديمية المهمة بالكامل على هذه التقنية إلى إهمال مفاهيم التعلم المهمة، مثل: العمل الجماعي، والتواصل، وتطوير الذات. يمكن أن يؤدي الخطأ التقني إلى إفساد التجربة التعليمية، وفقدان الثقة في التكنولوجيا، والابتعاد عن استخدامها في المستقبل.
يمكنك قراءة المزيد عن الذكاء الاصطناعي عالم جديد للمرأة العربية