في رحلة الحياة، تتعامل المهن والمهارات البشرية مع تحولات وتجارب مختلفة. ومن بين هذه التجارب المثيرة للاهتمام، نجد أطباءً ومهندسين قد انتقلوا إلى مجال الشعر والأدب، متحولين من رواد في مجالاتهم الأصلية إلى كتّاب وشعراء موهوبين. يتعلق الأمر هنا بمجموعة من الأفراد الذين قدموا إسهامات قيمة في مجالاتهم الأصلية، ثم قرروا استكشاف أعماقهم الإبداعية وتطوير مهاراتهم في الكتابة والشعر. فكيف تمّ الأمر، وما الومضة التي دفعتهم إلى ذلك، وهل يمكن أن يشعر الشخص بالندم إذا تم هذا التحوّل؟
جدة | ولاء حداد Walaa Haddad - تصوير | عدنان مهدلي Adnan Mahdli
الرياض | محمود الديب Mahmoud AlDeep - القاهرة | أيمن خطاب Ayman Khattab
بيروت | عفت شهاب الدين Ifate Shehabdine - تصوير | محمد رحمة Mohamad Rahme
الرباط | سميرة مغداد Samira Maghdad - تونس | مُنية كوّاش Monia Kaouach
وجهان لعملةٍ واحدةٍ
تحدَّثت الدكتورة إيمان مناجي أشقر، استشارية القلب، التي تصف نفسها دوماً «كاتبةٌ أحياناً، عاشقةُ حرفٍ وقلمٍ أبداً»، وأصدرت حتى الآن ستة كتبٍ أدبية إلى جانب عديدٍ من المقالات، عن تحوُّلها من الطب إلى الأدب، قائلةً: «أظن أن الأدب والطب وجهان لعملةٍ واحدةٍ، هي المشاعر». وأضافت: «بدأت الكتابة من أول سنوات الجامعة. كنت أكتب على استحياءٍ، ثم أتى زمنٌ، نشرت فيه ما كتبت، وكانت مقالاتٍ، وأسعدني جداً أنها لاقت استحسان القرَّاء وقبولهم، وشجَّعني ذلك على إكمال كتاباتي، وحين أصدرت كتابي الأول كحلي والخضاب عام 2002، كتب عنه الأديب محمد صادق دياب، رحمه الله: لماذا يشاركنا الأطباء القلم، فليدعونا وشأننا. وذكر أسماء أطباء امتهنوا الكتابة، منهم: الدكتور إبراهيم ناجي، والدكتور عبد الله مناع، والدكتور عصام خوقير».
وتابعت الدكتورة إيمان: «كان أن جعلت القلم والصفحة وجهي الآخر الذي أعبِّر به عن مشاعر الألم والوجع والفقدان، وهو ما نمارسه كل يومٍ. حبر الكتابة دموعُ الأطباء، والشجنُ المصاحب للألم. كنت أتساءل دائماً: هل أنا طبيبة قلبٍ، أم طبيبة أمراض قلبٍ؟ كلاهما وجعٌ به من الاختلاف الكثير! وبعد التقاعد، وجدت في رفقة الكتاب والقلم الصديق الذي هجرته طويلاً، وأهملته كثيراً، وحرمت نفسي منه قسراً، وتجبُّراً. الأدب هو أنا، وإن لم أكن كاملة الحضور».
الطبيبة إيمان أشقر: الأدب هو أنا وإن لم أكن كاملة الحضور
الأطباء وشغف القراءة
بينما أكد الدكتور عوض العمري، الكاتب في صحيفة الوطن والرئيس التنفيذي للشؤون الطبية والأكاديمية بمجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية، أن «الأطباء بطبعهم يحبون القراءة، وحقيقةً لا أرى أن هناك تحولاً كبيراً وجذرياً بالنسبة إلى الأطباء الذين يتميزون في مجال الأدب، أو الرواية، أو القصة، أو الشعر، أو الكتابة بشكلٍ عام؛ لأن شخصية الأطباء بُنيت على حب القراءة والاطلاع، والشغف بالبحث العلمي، إضافةً إلى تميُّزهم بالبروز المعرفي والفكري».
وقال: «بعض الأطباء طوَّر مهاراته بالمحور الأدبي، وبرز فيه، أما الآخرون فأبدعوا في مجالاتٍ وهواياتٍ أخرى بعيداً عن الطب، وبالطبع جميع تلك التحوُّلات تكون في الغالب هوايةً، ولا تُبعد الطبيب عن مهنته وشغفه الأساسي بالطب، وبذلك لا يشعر الطبيب الذي يحترف أي فرعٍ من فروع الأدب بالندم على ذلك، بل بالعكس، تنتابه حالةٌ من السعادة التي ترتبط بكونه مبدعاً في مجالٍ آخر».
وأنهى حديثه بالتأكيد، أن «الكتابة تؤثر بشكلٍ فاعلٍ وكبيرٍ في عملي بوصفي طبيباً، ويتجلَّى ذلك في تقديم النقد البنَّاء، ولا يوجد تعارضٌ بين ممارستي مهنة الطب والكتابة، فمع تنظيم الوقت لا يطغى أحدهما على الآخر، بل يكملان بعضهما بعضاً».
يمكنم الاطلاع على صورة الرّجل في الإبداع النسائي مزيجٌ من المعانقة والتفهّم وخيبات الأمل
جينات وراثية
تعدّ ميراي عبد الله شحادة، شاعرة ومهندسة، ورئيسة منتدى «شاعر الكورة الخضراء»، أن تجربتها بوصفها امرأة عاملة في مجال هندسة الميكانيك، وفي الوقت نفسه شاعرة وأديبة ومؤسسة منتدى ثقافي يحمل اسم والدها عبد الله شحادة يكملان بعضهما البعض، ولا تتخلى أبداً عن أي منهما. لديها ديون أول بعنوان «يوم قررت أن أطير» صدر عام 2017، وديوان ثانِ «بوهيمية» صدر عام 2021، وهي اليوم قيد التحضير لديوانها الثالث الذي سيصدر خلال الأشهر المقبلة.
تشير ميراي في حديثها إلى أنها «اكتسبت الروح الشاعرية من قريتي كوسبا (شمال لبنان)، المشهورة بزراعة زيت الزيتون، وفي جيناتي الوراثية من المرحوم والدي الذي كان لقبه «شاعر الكورة الخضراء». في داخلي طاقتان: طاقة شعرية، وطاقة علمية، وبالنسبة إلي شخصياً، أنا لا أفصلهما عن بعض أبداً؛ لأن الطاقة العلمية كلها حركة، وفيزياء، وكيمياء، ولا تتسّم بأي جمود على الإطلاق، والأمر نفسه بالنسبة إلى الشعر الذي أعدّه قمّة الحركة وعدم الجمود النهائي. اليوم مشاعرنا تتحرّك، وتكون بركانية وتتفاعل، بالنسبة إلي تتشابهان مع بعضهما كثيراً. ولدت شاعرة وعندي حب للكلمة ولترجمة أحاسيسي، أما الهندسة والتحصيل العلمي فقد اكتسبتهما بالدراسة، وأحبها كثيراً؛ لأنها تتمتّع بحركة لا تتوقف على الإطلاق. بالنسبة إلي الشعر والهندسة يكمّلان بعضهما، ولا أمر يطغى على الآخر، ولا أندم على أي أمر لأنني اليوم سيدة تعمل في حقل الميكانيك، وتحديداً في حقول الغاز والنفط، وهذا عملي ومورد رزق لي ولعائلتي. بينما الذي ينعش روحانيتي ويجعلني سعيدة جداً هو الشعر، إضافة إلى أنه يسهم في ترجمة أحاسيسي والتجاذبات التي تحصل في داخلي بوصفي امرأة. اليوم الشعر هو فقط الذي يشفيني، أنا موجودة في الهندسة والشعر وهما فعّالان عندي على أكمل وجه. الهندسة تتميّز بالعقلانية، بينما يتميّز الشعر بالعبثية الجميلة جداً؛ لأنها تدفعنا إلى الابتكار دائماً. اليوم، لا أستطيع أن أتخيّل نفسي من دون أن أكتب أو أن أعبّر عن نفسي من خلال القلم الذي يترجم ألمي، كما أن الهندسة مورد رزق وبصمة حياة؛ لأنه من دون المردود المالي سأكون شاعرة تعيسة، ولن أتمكّن من طباعة كتبي. كل شيء اليوم بات متاحاً، سواء بوصفنا مهندسين أو شعراء، لمتابعة الإنتاج العلمي والأبحاث وكل الأعمال الشعرية... الدائرة المعرفية لدينا باتت أوسع عن السابق، وبتنا نستخدم التكنولوجيا للشعر وللهندسة أيضاً. أحب الهندسة والشعر وأنا فعّالة في كليهما إلى أقصى الحدود».
المهندسة ميراي شحادة: الشعر والهندسة يكمّلان بعضهما بالنسبة إليّ
عشق الكتابة
أصدر الكاتب المغربي نزار كربوط، أخيراً، روايته الجديدة «نساء العزيز»، وهو في الأصل يمارس مهنة طب الأسنان، لكن شغفه بالشعر والأدب واللغة العربية جعله شغوفاً بالكتابة والإبداع. له رواية أخرى تحت عنوان «العرض ما قبل الأول»، يقول: «كما أعشق الأدب والشعر، تربيت على الأدب العربي منذ الصغر، من خلال كتاب الكبار المنفلوطي وأشعار محمود درويش ونزار قبابي وروايات نجيب محفوظ وغيرها، كما أن أول كتاب قرأته وبهرني كان كتاب ألف ليلة وليلة؛ الأمر الذي شكل وعيي بهذه اللغة الجميلة التي أكتشف فيها الكثير من الأسرار كل يوم. هاجسي في الكتابة أولاً وأخيراً هو تلك الصرخة أو الانفجار الذي ما زلت أبحث عنه، ذاك التعبير عما يدور في ذات الإنسان ويقلق وجوده. التجربة التي أستفيد منها دائماً هي عيادتي فهي مدرستي، كما يفعل كل طالب كل يوم وهو يذهب إلى المدرسة أو الجامعة، أفعل كل يوم، ألتحق بالعيادة وألتقي مرضاي وفيها يحضر الإنسان الذي يواجه الطبيب ويقف أمامه بلا أقنعة وبلا ماكياج. هذا الإنسان الذي يفرج عن نفسه التي قد تكون خلف الأقنعة لينزعها أمام الطبيب؛ لأن قول الحقيقة سيشفيه أو يساعده على العلاج». يضيف: «في عيادتي يحضر عدد من التجارب الإنسانية، وكثير من الناس يفتحون لي قلوبهم وأعرف حكاياتهم المختلفة وتجاربهم، وتفيدني بوصفي كاتباً. أتعلم في عيادتي الكثير الذي يلهم الكتابة ويحدث فرقاً كبيراً لتناول ما يدور في حيوات كثيرة حول هذا العالم. أحب مهنتي جداً، وأحب الجانب العلمي دوماً، وأبحث فيه باستمرار، ولعله هو من يدفعني للبحث أكثر في التفاصيل، والتفاعل مع قضايا يومية اجتماعية ونفسية واقتصادية. وكما في طفولتي كنت مولعاً بصنع المتفجرات؛ حيث ذاك الانفجار المدوي كان نوعاً من الاحتجاج الداخلي على الحياة بما لها وما عليها، أما مع عشق الكتابة، أصبحت أنفجر بشكل آخر لأعبر عن نفسي ومواقفي والآخرين، وكما قلت فإني من خلال الكتابة أقود مظاهرة فردية لكني أجر بها جمهوراً من القراء ليمعنوا في الحياة، ويتفاعلوا مع ذواتهم، ويستمتعوا بالأدب والإبداع».
مكسبان ثمينان
يؤكّد الدّكتور التونسي علي الورتاني أنّه طبيب - شاعر، ولا يرى أيّ موجب للفصل بينهما أو يتخلّى عن أحدهما، فهما مكسبان ثمينان حباه اللّه بهما. والدكتور الورتاني غنى لطفي بوشناق من شعره وزياد غرسة ومطربون ومطربات شهيرات من تونس، وتراوحت قصائده بين الغزل والإنسانيات وحب الوطن. وهو كثير الظهور في وسائل الإعلام، حتى إن الكثيرين لا يعرفون أنه طبيب، بل الصورة الغالبة عليه في ظهوره الإعلامي هي صورة الشاعر والمتابع للشأن الفني. ودأب على ممارسة مهنة طبّ الأسنان وجراحة الفم وزراعة الأسنان منذ أربعين سنة، مؤدّياً رسالته الإنسانيّة بأمانة وشغف، مساهماً في خدمة مجتمعه بالمداواة وتقديم الدّعم النفسي والنّصح، ساعياً لتطوير مهنته بمتابعته للنّدوات والمؤتمرات، لمواكبة جديد المهنة، علميّاً، وتكنولوجيّاً، وفنّياً، وجماليّاً. أمّا عن موهبته في الشعر، وخاصة شعر الأغاني، فهو يرى أنّ «الشّعر موهبة وإلهام» مضيفاً: «قلت الشّعر وعمري أربعة عشر عامّاً، وإنّي أعدّه تعبيراً عن ذاتي ومشاعري، فمهنة الطبّ ضمنت لي حياة كريمة ومرفّهة، أمّا كتابة الشعر الغنائي فإني أمارسها بمزاج، ولذلك حظيت قصائدي الغنائيّة برواج وإقبال وملايين المشاهدات على اليوتيوب».
إقرئي أيضاً عن كاتبات عربيات: ثيمة الحزن قد تمنح النص بعداً إبداعياً
المعادلة بين الطب والشعر
يضيف الدكتور الورتاني أنّه يحرص على التّوفيق بين مهنته الطبيّة وموهبته الشّعريّة، مولياً لكلّ منهما الاهتمام والتّركيز والوقت اللّازم، فلا يتخلّف أبداً عن مواعيد عمله لحساب لقاءاته الفنيّة والثّقافيّة، مخصّصاً سويعات من اللّيل لعالمه الفنّي والثّقافي، فهو يرى أنّ الشّعر لا يحتاج إلى التفرّغ، ففي أحيان كثيرة تباغته الصّورة الشّعريّة وهو في السّيارة أو في طريقه إلى العيادة، وفي أحيان أخرى تفيض القريحة وهو جالس صحبة أصدقائه، لذلك لم يؤثّر الشّعر سلباً في مساره الطبّي.
خطوة صعبة جداً
من مصر، يقول دكتور القلب محمد إبراهيم عيطة عن حنينه إلى الأدب: «يتطلب التحول المهني شغفاً قوياً واستثماراً في التعلم والتدريب والممارسة. قد يتطلب أيضاً الدعم العاطفي والمهني من الأشخاص المحيطين لدعم هذا التحول الجديد. أنا بالفعل لدي شغف بكتابة النثر لكني في كثير من الأوقات التي أقضيها ليلاً بين أسرة المرضى بعد تفرغي من المرور عليهم أشعر بإلهام وشغف تجاه الشعر منذ فترة طويلة. طبعاً، مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيسبوك، أصبح ملاذي خلال فترات الفراغ لدي، أقوم بتدوين بعض الأعمال النثرية التي ترد على خاطري، وأجد فيها راحة بعد الانتهاء منها، ومع ذلك أقوم بالانضمام إلى نوادٍ أدبية أو مجموعات شعرية؛ حيث يمكننا تبادل الأفكار والتجارب مع الآخرين، والاستفادة من تعليقاتهم وتوجيهاتهم. ومن يدري مع مرور الزمن ربما أتحول بشكل كامل إلى الشعر. ربما اتخذ قراراً بالاستقالة من ممارسة الطب وتكريس كل الوقت والجهد لمزاولة الشعر بشكل كامل». وعن الومضة التي تدفعه إلى التحول من طبيب إلى أديب، يقول الدكتور محمد: «إن هذه خطوة صعبة جداً، فما زلت في بداية طريق العمل، ولا أستطيع أن أقول لك ذلك، لكن هناك شغف واهتمام كبير بالكتابة والأدب منذ الصغر».
حنين إلى الأدب
الدكتور المهندس خالد محرز، أستاذ الفنون التطبيقية بجامعة القاهرة يقول: «دائماً يكون لدي حنين إلى الأدب؛ لأن في داخلي منذ الصغر عدداً من المهارات الدفينة، وضمنها كتابة الشعر، وأنا عندما كنت أتعلم مهارات وأساسيات جديدة في المجال الجديد، كنت أنضم إلى مجموعات اجتماعية أو مهنية ذات صلة. قد يتمكنون من تزويدك بنصائح قيمة وفرص تعلم إضافية، بدءاً بمفاهيم أساسية، واكتساب المهارات الأولية التي تساعدك على فهم النقلة النوعية التي ترغب فيها. لكن مع دخولي سلك تدريس الهندسة، كان من الصعب التحول المهني، لكن عندما تبرز التحديات الموجودة في كل مجال دائماً يأتيني الحنين إلى الكتابة في الأدب والشعر للتطبيق العملي في المجال الجديد». أما الومضة التي تدفعه إلى كتابة الشعر، يرى الدكتور محرز وجود بعض الومضات الشائعة التي يمكن أن تدفع المهندس للانتقال إلى الكتابة، وتطوير قدراته الأدبية، منها: الشغف بالكتابة، والرغبة في التعبير الإبداعي، والتحول الشخصي، والحاجة إلى التوازن والتنوع، والاهتمام بالقصص والأدب.
وعن مدى الندم في التحول إلى الأدب بدلاً من الهندسة، يقول الدكتور محرز: «قد يشعر بعض الأشخاص، الذين قرروا تغيير مسار حياتهم من مجال هندسي إلى الكتابة أو الأدب، بالندم في بعض الأحيان، وهذا ناجم عن المشاكل المالية أو الاستقرار المهني الذي قد يكون متعلقاً بتغيير المهنة. مع ذلك، هناك أيضاً العديد من الأشخاص الذين يشعرون بالسعادة والرضا بعد تغيير مسار حياتهم إلى مجال الأدب أو الكتابة».
هل أنت مهتمة بالاطلاع على كتب عمالقة الأدب العربي هل تستفيد منها الأجيال؟