«اسمي تيا، وعمري 12 عاماً، وسأتزوج من رجل يدعى جير، وعمره 37 عاماً»، بهذه العبارة بدأت «تيا» حملتها في النرويج ضد تزويج الفتيات القاصرات.
هذه العبارة التي نشرتها «تيا» على مدونتها استقطبت في كل يوم أكثر من نصف مليون قارئ. الكل أدان الإعلان، واحتج على الواقعة، واستنكر حدثاً سيهز صورة بلاد تقع في شمال أوروبا، ليس معروفاً عنها سوى أنها بلد الحقوق والحريات.
كما باقي الطفلات الأخريات، تحب «تيا» اللون الوردي، وحكايات الجدات، واللعب مع أقرانها. لكن كل هذا سيمّحي حينما يتم اقتيادها إلى الكنيسة؛ من أجل عقد قرانها على رجل اسمه «جير»، يكبرها بسنوات عديدة، اختاره أبواها كرهاً لها منذ عدة أسابيع.
«جير» لا يعرف بشكل كبير الفتاة التي أعلنت زواجها به، وهو فرح لكونه سيعقد قرانه مع فتاة صغيرة؛ تجاوباً مع دعوة أبويها للزواج بـ«تيا»، التي لاتزال تتساءل عن وضعها المستقبلي، وعن مصير لعبها بعد الزواج، وعن الورود التي زرعتها في حديقة البيت؛ هل ستكبر مثلها أم ستموت كما ماتت هي بهذا الزواج الأبدي؟
حدث يهز النرويج
الحدث الاستثنائي هز كيان المجتمع النرويجي، حينما أنشأت «تيا» منذ شهر مدونة لها ذكرت فيها جميع تفاصيل الزواج، ومراسيم العُرْس ومواصفات العريس الذي اختاره لها أبواها.
ولاتزال تساؤلات «تيا» حاضرة حول الحياة الجديدة، وواجباتها الزوجية التي هي من اختصاص الكبار فقط، فقالت: «حينما تحدثت إليّ أمي عن السرير الذي سوف أتقاسمه مع زوجي في منزلي المستقبلي، لم أتصور أني سأنام مع جير. هل هذا يعني أنه ستكون لنا علاقات حميمة؟! لكني قرأت أنه ينبغي القيام بالمحاولة لأكون أكثر إثارة ليلة الدخلة».
وكتبت «تيا» هذه العبارات الجارحة لها ولغيرها من الفتيات اللواتي سيقتدن إلى بيت الزوجية، مرفوقة بصور تظهر فيها مرتدية ملابس العُرْس وهي في أبهى حلتها. وأثار قرار «تيا» جدلاً واسعاً وردود فعل غاضبة بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي؛ احتجاجاً على الواقعة.
النرويجيون لم يصدقوا هول الحادث، الذي إذا وقع سيكون وبالاً على مجتمع يريد الحفاظ على سمعته كبلد أوروبي له تاريخه، وتقاليده العريقة في العناية بالأطفال.
والمجتمع النرويجي لا يعرف زواجاً للقاصرات، ولا تسجل به أي نسبة على هذا المستوى؛ لأن الزواج يتم بعد 18 سنة، وبالتالي يمنع تزوير القاصرات والطفلات. ولايزال النرويجيون يتحدثون عن الواقعة، رغم أنها كانت بغرض إثارة الانتباه إلى ظاهرة خطيرة تعم بلدان العالم.
وتظاهرت فتيات ونساء وأمهات من مختلف الجنسيات والديانات أمام الكنيسة في العاصمة النرويجية أوسلو؛ احتجاجاً على زواج «تيا» من رجل لم تختره، ولا تتوافر على إرادة رفضه؛ لكونها صغيرة، وأجبرها والداها على الارتباط به مدى الحياة.
وانبرى بعضهم للقيام بمحاولات عدة لإثناء والدي «تيا» عن تزويجها، في حين اتصل آخرون بالشرطة والجهات المعنية برعاية الطفل؛ للتدخل لإيقاف تلك الواقعة.
وحل يوم الزفاف في الكنيسة بأوسلو، وقالت «تيا» أمام الجميع وبينهم راعي الكنيسة «لا»، وانسحبت من المكان لتعلو الفرحة جميع الحضور والفاعلين المدنيين الذين رأوا في موقفها شجاعة كبيرة.
«تيا» وزواج القاصرات
أرادت «تيا» من خلال هذه الواقعة القيام بصدمة داخل المجتمع النرويجي؛ لكي ينتبه إلى الحالات الكثيرة والأرقام الكبيرة المسجلة عالمياً في زواج الطفلات الصغيرات، واللواتي تغتصب طفولتهن، ولا يستطعن البوح بكل معاناتهن مجبرات على الرضوخ للأمر الواقع.
و«تيا» كانت متطوعة شجاعة لدى منظمة «تشاريتي بلان إنترناشيونال» التي تعنى بحقوق الأطفال، وتعمل في قارات آسيا وأفريقيا وأميركا، والتي تنظم حملة دولية للتحسيس والتوعية بمخاطر تزويج القاصرات، وأرادت أن تلقي الضوء على حالات زواج الأطفال الذين يجبرون على الزواج كل يوم.
وقالت المنظمة في تصريح لها بمناسبة هذا الزواج، الذي رافقته ضجة كبيرة في النرويج: «نحن نؤمن بأن الاستفزاز هو وسيلة قوية من أجل إيضاح حقيقة مستفزة للغاية»، معبرة عن الأمل في أن «يتحرك الناس ضد زواج الأطفال عن طريق رعاية الفتيات؛ حتى يتمكن هؤلاء اللائي يواجهن موقف تيا من الهروب من مصيرهم القاسي».
مواقع التواصل الاجتماعي
ناقش الآلاف من الأشخاص الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين أن الهدف من قرار «تيا» هو دفع الأشخاص إلى أخذ رد فعل سريعا؛ لإيقاف زواجها قبل أن تقول «نعم» لزوجها المحتمل جير.
وأكدت المنظمة أن عملها الاستفزازي أساسي من أجل حث الناس على التفاعل مع الدعوات الحقيقية؛ لمنع تزويج الطفلات، والتحرك بسرعة لإنقاذ الأطفال المعرضين للاستغلال والحرمان من طفولتهم والاستمتاع بمرحلة عمرية هامة في حياتهم، والتي تغتصب بفعل الزواج المبكر.
وأشارت إلى أن حملتها المتواصلة تهدف إلى القضاء على هذه الظاهرة البشعة، وتشجيع «الفتيات اللائي تعرضن لمثل تلك الواقعة أن تهربن منها بنفس الطريقة»، أي الإعلان عن الزواج وموعده لفضح المستور.
وسيلة ناجعة للحد من الإجرام
يقول إدريس بن العربي، الأستاذ الجامعي في علم الاجتماع: هذا النوع من الزواج يظهر أن زواج الطفلات حينما يتم فضحه والبوح به مبكراً يحدث صدمة في المجتمع، ويؤدي إلى وجود معارضين له، وبالتالي فإن عملية الفضح المجتمعي للظاهرة وسيلة ناجعة للحد من الإجرام في حق فتيات لا ذنب لهن.
كما أن الفتاة «تيا» أظهرت شجاعة كبيرة في تقمص دور توجيهي يبين مدى قدرتها على الانضباط، وعدم التأثر بالمحيط المنتقد لها إلى غاية استكمال ما استهدفته، وهو إحداث الصدمة.
وفي المجتمعات الغربية ذات المستوى العالي من التربية والتعليم لا يُطرح المشكل؛ لكون الحياة العامة منضبطة بالقوانين المانعة لكل إجراء يضر بالطفولة، وحياة الفتيات على المستوى الدراسي والنفسي والتربوي والترفيهي.
القوانين تفرض وتضبط إيقاع التعامل مع الطفلات؛ لكون المجتمعات الغربية لها فلسفتها في الحياة المنطلقة من كون الطفل له حقوق مثل البالغين، بل إن بعض الدول تعتبر حقوق الطفل أسمى؛ لأن البالغ له القدرة العقلية والمادية على التصرف والتمييز، في حين أن الطفل لا قدرة له على حماية نفسه، وبالتالي الدولة والقوانين هي التي تحمي الطفل من كل تصرف قد يضر بحياته كلها.
وحالة الطفلة «تيا» خير دليل؛ لأن كل المجتمع أدلى برأيه بشكل موحد، ولم يحدث أي اختلاف داخل المجتمع حول استنكار التصرف، الذي حينما تبين أنه كان بغرض إنساني لاستفزاز المجتمع الدولي صفق الكل للطفلة ولجميع من شارك في إثارة الصدمة النفسية لدى المجتمع، إزاء تصرفات لا إنسانية تتمثل في تزويج الفتيات وهن في عمر الزهور، في تصرف يقضي على مستقبلهن، ويحكم على حياتهن بالفشل والضياع.
أرقام
* حسب منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف)، فإن 250 مليون امرأة في العالم تم تزويجهن وهن في مرحلة الطفولة.
* أكثر من 30% من المتزوجات في البلدان النامية هن من الفتيات دون سن 18 عاماً، منهن نحو 15% ممن يتم تزويجهن دون سن 15 عاماً.
* تقدر دراسات أنجزت في عدد من بلدان العالم أن 39 ألف طفل يجبر يومياً على الزواج.
* يوجد بالنرويج عدد كبير من مراكز العناية اليومية بالأطفال من أجل تربيتهم ورعايتهم، حيث يصل عدد المستفيدين من خدماتها إلى نحو 200 ألف طفل.
70 مليون امرأة
يقول بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة: بلغت نسبة من تزوجن قبل سن الثامنة عشرة من الشابات اللائي تتراوح أعمارهن حالياً بين 20 و24 عاماً نحو امرأة واحدة من بين كل ثلاث نساء، أي نحو 70 مليون امرأة على الصعيد العالمي. مع أن النسبة الإجمالية لمن يزف بهن كعرائس من الطفلات قد انخفضت خلال السنوات الثلاثين الماضية. لايزال التحدي قائماً، ولاسيما في المناطق الريفية، وفي أشد الأوساط فقراً. وإذا ما استمرت التطورات في اتجاهاتها الحالية فإن عدد الفتيات اللائي سيتزوجن قبل أن يكملن ربيعهن الثامن عشر سيصل إلى 150 مليون فتاة في العقد المقبل.