مرحباً يا عراق.. هل نسيتني بعد طول السنين سامـراء
مرحباً يا جسور يا نخل يا نهر
وأهلاً يا عشـب... يا أفياء
كيف أحبابنا على ضفة النهر
وكيف البسـاط والنـدماء؟
كان عندي هـنا أميرة حبٍ
ثم ضاعت أميرتي الحسـناء
أين وجهٌ في "الأعظمية" حلوٌ
لو رأته تغار منه السـماء؟
إنني السندباد.. مزقه البحر
وعـينا حـبيبتي المـيناء
مضغ الموج مركبي وجبيني ثقبته العواصـف الهـوجاء
إن في داخلي عصوراً من الحزن فهـل لي إلى العـراق التجاء؟
تلك كلمات نسجها عاشق ليزلزل الدنيا وليسترد قلبه وروحه اللذين سلبتهما الفاتنة ذات العينين السوداوين والشعر المسدول.
فهي التي أعادت إليه إبداع الكلام وأغرقته في بحور الشعر من جديد بعد انقطاع دام سنوات، فمنذ أن وقعت عيناه عليها في احدى الحفلات الدبلوماسية، أسرته .. فتنته ..أعجبَ بها وعشقها من النظرة الأولى، تعرف عليها، أحبته فأبهرته بجمالها، بذكائها، بشفافيتها وعاطفتها.
هي المناضلة العراقية وابنة القضية الفلسطينية كما أحب أن يسميها الرئيس الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات"، إنها "بلقيس الراوي"، أما هو دبلوماسيٌ سوري ورائد الشعر الرومانسي في العصر الحديث، لقب بشاعر المرأة، إنه "نزار قباني".
عاد كسير القلب
نزار الذي لم يصبر على بعد بلقيس التي أسرته في أول لقاء لهما بحفل بيروت بأحد السفارات العربية في ستينات القرن الماضي، تقدّم لخطبتها، لكنه عاد كسير القلب والخاطر فطلبه قوبل بالرفض، وذلك بسبب مجتمعها القبلي الذي عارض تاريخه الشعري الغزلي، فكيف لأب أن يزوج ابنته شاعر لا يعرف قلمه سوى مفاتن النساء.
لا استسلام
لم يستسلما فحبهما أكبر من قيود مجتمعية وأحكام قبلية، استمرت علاقة نزار ببلقيس، سافر خلالها نزار لإسبانيا ليعمل دبلوماسياَ فيها لمدة ثلاث سنوات، وفي هذه السنوات الطويلة لم ينقطع اتصاله بملاكه بلقيس، بل ازداد حباً، ازداد شغفاً، وهي لم تقبل بغيره زوجاً ولا حبيباً.
وفي 1969م عاد نزار وكله عزم وإصرار بإطفاء لوعة حرمانه من محبوبته، ذهب إلى بغداد بدعوة رسمية للاشتراك في مهرجان "المربد" للشعر العربي، وألقى قصيدة من أجمل قصائده "مرحباَ يا عراق" لتهز كلماتها المجتمع العراقي وتتعاطف الدولة والشعب مع قضية العاشق نزار، وتتولى القيادة العراقية بقيادة الرئيس العراقي مهمة طلب يد بلقيس من أبيها، ويذهب الجميع إلى بيت الراوي في (حي الاعظمية) بالعراق ليتم المراد.
زواج العاشقان
تزوجا العاشقان في بيروت وأنجبا زينب وعمر. ورغم فارق العمر بينهما احتضنت بلقيس نزار كأم وأحبته كزوجة، فلا ننسى قصيدته التي كتبها عام 1980 بمرور عشر سنوات على زواجهما:
أشهدُ أن لا امرأةً
أتقنت اللعبة إلا أنت
واحتملت حماقتي
عشرة أعوام كما احتملت
واصطبرت على جنوني مثلما صبرت
وقلمت أظافري
ورتبت دفاتري
وأدخلتني روضة الأطفال
إلا أنتِ ..
الرحيل
لم تدم روضة الحب طويلاً وآن الأوان لذاك الطفل أن يشيخ، ففي عام 1981 غابت شمس بلقيس من سماء نزار ليبقى عرشها منتصباً في وجدانه كجرح أبدي، فقد فجرت قوى الظلام السفارة العراقية ببيروت حيث كانت بلقيس، زلزل ذلك الانفجار كيان نزار وكأنه يشعر بأن هذا الانفجار خطف منه روحه، قال لحظتها: (بلقيس راحت، شظايا الكلمات مازالت داخل جسدي، أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الابد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياه، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي).
هرع نزار لمحبوبته علّه يجدها أو تغمض عيناها لآخر مرة بين أحضانه، وقف عاجزاً بين الركام، أربعة أيام وفي قلبه تمر أربعة قرون، أخرجوها من تحت الأنقاض وفي احدى اصابعها خاتما منقوشاً عليه اسم "نزار"، ليطلق بعدها صرخة حزنه المدوية للعالم ويكتب قصيدته المشهورة كأطول القصائد المرثية التي نظمها باسم "بلقيس"، نذكر مطلعها..
شُكراً لكم ..
شُكراً لكم . .
فحبيبتي قُتِلَت .. وصار بوُسْعِكُم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
غادر نزار بعدها لبنان وكان يتنقل بين باريس وجنيف وأخيرًا في لندن حيث قضى الخمسة عشرة عامًا الأخيرة من حياته وتوفي بعد معاناة مع المرض عام 1998 م.
نزار: "هل تعرفون حبيبتي بلقيس!؟"
- ثقافة وفنون
- سيدتي - منى باشطح
- 12 فبراير 2015