وتناثرت حبات الكلام..

كنت حتى الأمس أكلمك فتسمعين، حتى الأمس كنت أكلمك، الآن انفرط عقدي وتناثرت حبات الكلام.

سأحاول، لكن حاولي معي. ركزي حتى تفهمي عني.

الحمد لله رب العالمين، الذي أنشأني وجعلني إنسانًا مبينًا لكن لساني ثقيل الليلة، ويدي بطيئة والقلم تمسكه بالكاد. وقلمي لم يعد حبره مشعشعًا كما كان، فتحملّيني يا سيدتي باسم العشرة.

عشر سنوات ونحن نلتقي على هذه الصفحة، من أجل تلك السنوات العشر تسامحي معي هذا الأسبوع.

لقد تعودت مني أني أنسى، لكني لم أنسَ من قبل الكلام. هذه المرة أجاهد كي أمسك بالقلم، يسقط مني بين كل سطرين، أما الكلمات فقد قررت أن تكون مهرة حرونًا. طالما كنت خيّالها، فلمَ الآن هذا النفور والعصيان؟ إنها تشرد بإصرار بين فيافي المعاني واللغات، تتمرد على سيدها ومالكها الذي طالما شكمها وحكمها وسلس له قيادها.

على كل حال، لا بأس، سأسترده يومًا ما، وسأخضعها كما لم تخضع من قبل، وإلى أن يحدث ذلك كوني صبورًا معي، أيتها الأخت العزيزة، وسأحاول أنا الآخر ألا أشرد كثيرًا، وأتوه وراء الكلمات.

سأحكي لك حكاية قصيرة جدًا جدًا؛ لكي لا أنسى آخرها في منتصفها.

كنت أجلس يومًا على شاطئ نهر، نهر صغير كغدير، ساقاي متدليتان في مائه الصافي الذي يشف عن حصى جميل ملون، وكنت أقرأ في كتيب صغير كله أشعار قصيرة. كان أول تلك القصائد فيما أتذكر رباعية تقول:

 يا أم النهد النونو

كما عصفور وسنونو

اللي ما شافش عيونك

إيه فايدتها عيونه؟

كنت أنا الآخر قصيرًا كالقصيدة، عدد سنوات عمري يساوي عدد كلماتها: 15...

ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ لا شيء... لا. هناك شيء.. رباعية أخرى في الصفحة التالية.. كانت رباعية تقول:

أنا اللمون البنزهير

أخضر.. ومر

يا حبة السكر

يا ما نفسي نبقى لمون عصير

حكاية أخرى مشابهة لكن مختلفة، تعلق بذهني، كما تعلق ورقة شجر صفراء بفرع خريفي.. كنت أكبر قليلاً، ساقاي تتدليان في نهر آخر صغير، ماؤه ليس بالصفاء القديم، والكتاب في يدي.. مازال كتيبًا، لكن الغلاف تغير. كانت القصيدة الأولى أطول قليلاً، تقول أبياتها:

كان الحبيب

في البدء زهرة صغيرة جدًا

ثم استحال ضفدعة

أحببتها دون تردد

لأنها كانت لطيفة جدًا

تنقّ في دعة

تنط في تودد

لكنها بدورها استحالت

لطائر هاجر ثم لم يعد

لاحظي الحزن الساخر، والفصحى بديلاً عن العامية، كنت قد كبرت في الأوراق الرسمية عامين، لكن وجهي قال أنا في الخامسة والخمسين.

هذه بعض الحكايات أسوقها لتسليتك، في غياب الكاتب الذي اعتاد أن يحيرك بتدفقه المحكوم وشطحاته المحكمة.