الغريبات الجميلات ـ 3 ـ

من أفينيون إلى آرل.

في أفينيون توقف القطار فائق السرعة، من القطار إلى حافلة أقلت الجميع إلى آرل، جئت آرل مرات من قبل، لكنني لم أُقم بها، نزلتها عندما شاركت في ندوة نظمت خلال زيارتي إلى مارسيليا، مرة أخرى جئتها برفقة فاروق مروم بك مستشار دار أكتوسود للأدب العربي، وفاروق من الذين خدموا الثقافة العربية عامة، ومع صديقه إلياس صفير خدما القضية الفلسطينية على المستويين الثقافي والفكري بما يوازي جهد مؤسسات كاملة، عمل فاروق مع الراحل بيير برنارد في دار سندباد ذات الدور الرائد في تقديم الأدب العربي، وبعد وفاة بيير اشترت «أكتوسود» دار سندباد، وانتقلت إليها إصداراتها وأرشيفها، أكتوسود بدأت دار نشر إقليمية صغيرة من مدينة آرل، وسرعان ما أصبحت إحدى أهم دور النشر الفرنسية المتخصصة في الأدب الأجنبي، رغم عراقة باريس فلا تعتبر المركز الأقوى، المؤثر، مثل القاهرة، يمكن لدار نشر في الريف أن تصبح الأهم، ويمكن لرسام أو كاتب في قرية صغيرة أن يشتهر ويذيع، لا توجد مركزية صارمة في الثقافة الفرنسية خاصة والأوروبية عامة.

إنها المرة الأولى التي أُقيم خلالها في المدينة، غدًا ينطلق احتفال الجميلات الغريبات من هنا، من المدينة التي إذا ذكرت يظهر على الفور اسم فان جوخ الذي عاش فيها، وتأثر بها وجرى له ما جرى، نزلنا من الحافلة في الشارع العريض، أو ما يعرف بساحة لامرتين، حيثُ يقام غدًا السوق الذي يعرض فيه كل ما نتصوره، اتجهنا إلى قلب المدينة القديمة، مررنا بمجلس المدينة، كل المباني عتيقة، الشوارع مبلطة بالحجر، العربات ممنوعة هنا؛ لذلك لابد من الترجل، بعد حوالي مائتي متر وصلنا إلى ساحة صغيرة يتوسطها تمثال برونزي لشاعر كان يكتب باللغة البروفنسالية، أي المحلية التي لا تزال موجودة في الجنوب، ثمة لغات محلية قديمة أشهرها البروفنسالية في الجنوب والبريتانية في شمال غرب بمقاطعة بريتاني، من الإنجازات العظيمة لجاك لانج وهو من أعظم وزراء فرنسا زمن «فرانسوا ميتران» أنه أقر هذه اللغات واعترف بها وأتاح الفرصة لتدريسها، هكذا إلى جانب البعد الإنساني للقراء، فإنه نزع فتيل مشاكل يمكن أن تتضخم في المستقبل، حول الميدان مجموعة من المقاهي ذات الطبيعة السياحية ومكتب للرحلات اسمه النيل، أما الفندق الذي تم اختياره لنا فيبدو أنه عريق، قديم، غرفه واسعة، مرتفعة، لم يجرِ عليها أي تعديلات حديثة، وعندما اطلعت على لافتة الأسعار المعلقة وراء الباب اكتشفت أنه ضعف الفندق الذي نقيم فيه بباريس تقريبًا، الليلة هنا مقابل ثلاثمائة يورو، في باريس مقابل مائة وسبعين، حجرتنا في الطابق الأخير، تطلعت منها لأرى أسقف البيوت، معظمها أحمر الأحجار، الشمس انتزعت طراوة اللون وطزاجته، شمس الجنوب القاسية، الحادة، الشمس التي أذهلت فان جوخ وأضاءت لوحاته، النوافذ هنا من جزأين، الداخلي زجاجي والخارجي خشبي من مصراعين، اللون الغالب هو الأزرق، نوافذ خاصة بالمدينة، المصراعان أصمان، لا تتخللهما خرجات، أسقف البيوت التي تتوالى مثل الأمواج المتجمدة، ذات المستوى المتقارب، وتذكرت مدينة صغيرة في جنوب إيطاليا اسمها لوتشيريا، عاش فيها العرب خلال حكمهم لجنوب إيطاليا وصقلية، أسقف بيوتها تشبه أسقف مدينة آرل، يبدو أن القرب من البحر الأبيض يضفي خاصية مشتركة، شيء ما يؤكد هوية خاصة بالمباني، بالطرق، بالملامح، مدينة آرل تزدحم في الصباح بالأجانب؛ لأن القطار فائق السرعة لا يمر بها، فلا تزال تعتبر من مدن السياحة ذات اليوم الواحد، من أهم معالمها ما يتعلق بفان جوخ الذي عاش معدمًا هنا، كذلك مكتبة أكتوسود التي تعد واحدة من أهم المكتبات الآن بفرنسا، من المكتبات التي أحببتها وتأثرت بها جدًّا من حيثُ العرض والمساحة المتاحة، مكتبة موليه في بوردو، وأكتوسود في آرل، غير أن آرل هي مدينة فان جوخ بلا منازع، عندما دخلت مدرسة المترجمين برز أمامي بألوانه وروحه، كان المبنى مستشفى للأمراض العقلية، الآن مركز ثقافي، رسمه العبقري، المبنى يغلب عليه اللونان الأزرق والأصفر، أحد أبرز لونين في عالم فان جوخ.

فان جوخ من أقرب الفنانين الانطباعيين إليَّ، ليس بألوانه وفرادة فنه فقط، إنما بتفاصيل حياته المأساوية والتي أراها وراء كل لوحة، حيثُ تمتزج حياته بفنه إلى حد كبير ومؤثر، لم يكن يعرف آرل فهو من الشمال، في باريس قال له العبقري تولوز لوتريك «سوف تحب آرل فهي بلدة هادئة، لن يضايقك فيها أحد، الحرارة الجافة واللون الرائع، وهي البقعة الوحيدة في أوروبا التي يمكنك أن تجد فيها الصفاء الياباني الخالص، إنها جنة الأحلام للمصور».

يصف أرفنج ستون في كتابه الجميل عن فان جوخ اللحظات الأولى في آرل: «لفحت الشمس الآرلية فنسنت فيما بين عينيه فأيقظته من نومه، لقد كانت هالة أو كرة سائلة ذات وهج ليموني أصفر، تنفذ خلال سماء زرقاء قاتمة وتملأ الجو بضوء مبهر للعيون، لقد خلقت تلك الحرارة المخيفة وصفاء الجو الناصع عالمًا جديدًا غير مألوف»، يبدأ فنسنت التفاعل مع المكان والمناخ، ويبلغ ذروة إبداعه في الحقول وفي المدينة، تحت الشمس الوهاجة، وفي آرل يدركه الجنون، يقطع أذنه ويهديها إلى منْ يعشق، وينتهي به الأمر في مستشفى سان ريميه للمجانين، تفاصيل شتى كنت أستعيدها في أثناء تجوالي في المدينة، أتخيله.

 

 

للتواصل مع الكاتب جمال الغيطاني[email protected]