أرسل أحد مسؤولي الإدارة في طلبي، ومد إليّ بطاقة أنيقة تحمل اسمه وأرقام تليفوناته وعنوانه «زوجتي تود التحدث إليك. اتصلي بها على الرقم الأخير وحددي موعدا لزيارتها»، نظرت إليه بذهول، ما الأمر؟ كان قد انشغل بالكتابة، تنحنحت بحرج، وهز عينيه مستفسرا: «نعم؟» ازداد ارتباكي، وأحسست بخديّ يشتعلان نارا وأنا أحاول أن أشرح له: «اعذرني سيدي، ولكن... أنا لم يحصل لي بعد شرف التعرف على المدام»، قاطعني بنفاد صبر: «سترينها قريبا. أنت نجلاء عنتري، أليس كذلك؟ سكرتيرة قسم المراسلات، مكتب جيم؟»
«نعم، نعم» أجبت بدهشة.
«ولديك... مدونة تهتم بالأبراج؟»
صعقت ولم أستطع أن أنبس بكلمة.
«لا؟» سأل بارتياب، ورددت وأنا أتلعثم: «بلى، ولكن... كيف عرفت...؟»
«غير مهم، زوجتي بانتظار اتصالك، اذهبي إلى عملك الآن».
انصرفت وأنا أبلع ريقي بصعوبة، لو قيل لي أنني ربحت في قرعة اليانصيب لما صعقت مثلما حدث لي الآن، كيف علم بأمر المدونة؟ وماذا تريد مني زوجته؟
تطورت الحكاية بشكل لم أستطع أن أسايره، أقدمت يوما، وأنا أتصفح مواقع الأبراج على الإنترنت، على إنشاء مدونة تقرأ طالع الناس وتحلل حظوظهم في الحياة عبر دراسة أبراجهم، كانت مزحة عابرة، لم أتخيل أبدا أنها ستلقى الرواج الذي صاحبها منذ أيام التأسيس الأولى، كثرت تعليقات القراء على ما أكتب، وبدأ الناس يبعثون إليّ تواريخ ميلادهم، ويطلبون مني تحليل شخصياتهم، وتقديم النصائح والإرشادات التي ستعينهم على تخطي العقبات والمشاكل التي تواجههم، ووجدت نفسي أستمتع باللعبة، وأتقمص دور عالمة الفلك التي لا يشق لها غبار، لم يكن الأمر صعبا عليّ، فأنا مولعة منذ صباي بقراءة كتب التنجيم، ومتابعة أخبار الفلك والأبراج في الصحف والمجلات، لم أكشف طبعا شخصيتي الحقيقية، ولكن ثمة من علم بأمر المدونة في عائلتي، زوجي رحب بعروض الدعاية مدفوعة الأجر التي تلقيتها بعد أن كثر زوار صفحتي، أختي تحمست لمغامرتي، أمي خافت عليَّ من عواقب الكذبة، وإخوتي الصغار هللوا لنجاحي.
قلبت بطاقة مسؤول الإدارة طويلا بين يدي قبل أن أنتبه إلى أن زملائي في المكتب يتتبعون حركاتي باهتمام مريب، لم أستطع أن أشفي غليل فضولهم.
أخبرني زوجي بأنه توقّع أن تتسبب ثرثرتي الزائدة في كارثة لا قِبَل لي بمواجهتها، «ما كان عليك أن تفشي أمر المدونة لعائلتك، لا ينبغي لأسرار حساسة كهذه أن تخرج عن نطاق شقتنا، مؤكد أن أختك العزيزة لم تستطع أن تمسك لسانها. بلعت الكلمات اللاذعة التي كدت أقذفها في وجهه، وقررت أن أتصرف دون طلب مشورة بقية أفراد الأسرة. اتصلت بزوجة المسؤول، فدعتني لزيارتها في أقرب وقت، استقبلتني بحفاوة بالغة، وأثنت كثيرا على مدونتي، وقالت إنها لا تفلت تحليلا واحدا من كل ما أكتب، ثم دخلت سريعا في لب الموضوع: ابنتها الكبرى تدرس في جنيف، وقد تعرفت على سويسري نال إعجابها، وتريد الزواج به، الرجل أسلم، ولكنها غير مطمئنة على مستقبل البنت معه، تريد مني أن أدرس طالعه، وأحلل برجه وبرج الفتاة، وأرى هل يتناسبان، وأحدد حظوظ نجاح أو فشل ارتباطهما إن تم، وتريد أيضا أن تتلقى مشورة بشأن طالعها هي شخصيا وطالع السيد المسؤول!
قضيت وقتا ممتعا معها، عرفت الكثير من الأسرار، وحصلت على وعود لم أكن أحلم بها. أنا الآن أتأهب للانتقال إلى الدور العلوي الخاص بأعضاء الإدارة، حصلت على ترقية ممتازة، وألحقت بمكتب السيد المسؤول، أرى زوجته مرة في الأسبوع، وتتصل بي كلما احتاجت لنصيحة أو توجيه، أتدخل بشكل غير مباشر في الكثير من قراراتهما، وأحاول ألا أفكر فيما يمكن أن يحدث عندما تنكشف خديعتي، لست مسؤولة في كل الأحوال عن سذاجة قرائي، هم من يطلبون مساعدتي، أنا لا أسعى خلف أحد.
[email protected]للتواصل مع الكاتبة نجاة غفران