خمسون ـ 2 ـ

حتى السادسة كنت أرى المدينة من فوق السطح الذي نسكن فيه، الأفق مفتوح، تتجاور خلاله الأزمنة ولا تتوالى، الفرعوني في الجيزة غربًا، القبطي جنوبًا في الفسطاط، الإسلامي موزّع على الجهات لكنه أغزر، أكثف في الشرق والشمال، كل مرئي أو مسموع كنت أعيد خلقه من خلال خيال نشط، جموح، كنت أتخيّل مخلوقات تحت الأرض، وتخاطبًا بين الجدران والأسقف، وتزاورًا بين الأشجار والزهور، بين الزجاجات الفارغة والملابس المعلقة، كنت أتنقل بين عوالم موازية، تفاصيلها من حكايات متوارثة شفاهية أصغيت إليها في الجمالية أو جهينة مسقط رأسي حيث يتعايش المرئي واللامرئي، بعضها خرافي، منها أنطلق إلى عوالم فسيحة تتجاوز الأفق المفتوح على الكون الذي أطالعه من الدرب المسدود الذي بدأ فيه وعيي.

السؤال الذي علق بي «امبارح راح فين؟»، إنه سؤال الزمن، جميع أدوات الاستفهام، النصوص الفكرية التي تتناوله، لا يمكن أن تدل عليه، أو تشير إليه، أو تحدده، أو توصِّفه مباشرة، ليس بوسعنا إلا توهمه، تعيين العلامات المتخيلة التي تسجل حركته، أعني مفردات التقاويم بدءًا من الثواني حتى الأيام والشهور والسنين والقرون، لكن من المستحيل أن تحدث به علامة، أو التأثير في حركته بالإبطاء أو الإسراع، يطوينا باستمرار، يدفعنا صوب اتجاه واحد لا رادَّ له ولا مُبين، ربما نلتقي عنده بنقطة البداية التي جئنا منها، المستحيل المؤكد إمكانية العودة إلى نقطة انطوت منه.

 

لو عرفنا بدايته لأدركنا نهايته، لو أنه بدأ في لحظة معينة فهذا يعني وجوده مرتين، كيف يكون الوجودان متداخلين، أو حتى متوازيين؟ ذلك مستحيل، ما نعرفه من أعراضه حتى الآن يؤكد أنه لا يقبل التماهي مع مثيل له، فلا مثيل له، ولا يقبل التماهي مع الضدّية فلا ضدَّ له، إذا افترضنا أن له بداية، فهل بدأت في مسار آخر، هل تتعدد وتتداخل البدايات؟ إذا صح أن ثمة بداية، فكيف اتجاه المسار، المؤكد أنه يمضي في اتجاه واحد فقط، لا يرتد، هذا المسار، هل يصعد أم ينزل، هل يتجه إلى المستقبل أم إلى الماضي؟ هل يشبه مسار الإنسان الدائري، عندما يلتقي طرفا النهاية بالبداية، تتم الدائرة وينتهي كل شيء على المستوى الفردي، كل يوم يمر من العمر الإنساني، من وجود الأشياء دنوٌّ من النهاية، من الأبد، هل الزمن الكوني شبيه بالمسار الإنساني؟ هنا أذكر القول الصوفي: العالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير.

نرى أعراضه ولا ندرك جوهره، نعرف منه الشباب والمشيب، التبدّل والتغيّر، التحول والنشوء، الحضور والغياب، الإقلاع والوصول، البدء والانتهاء، أما هو فلا أول ولا آخر، نرى منه الهدم والدفع، الغلق والفتح.