القراءة.. المجاهدة ـ 1 ـ

 

عرفت القراءة منذ إدراكي سر الحرف، أي في السادسة من عمري، أول رواية متكاملة، ترجمة لبؤساء فكتور هوجو، ثم ألف ليلة وليلة، لم يكن في البيت مكتبة، أو أي شخص له علاقة بالقراءة، من القاهرة القديمة بدأت، من رصيف الأزهر الذي كانت تباع عليه الكتب المستعملة، الروايات المترجمة، وكتب التاريخ والفقه والأدب القديم، كنت أقرأ كافة ما أجده متاحًا، لعلّي أعتبر هذه الفترة المبكرة مرحلة القراءة والمعايشة، لم أكن أطالع الروايات، إنما كنت أتمثلها، وأتقمص بعض شخصياتها، ظللت أمشي ثلاثة أيام محدودبًا بعد أن قرأت أحدب نوتردام، كنت أبكي بدمع حقيقي عذابات كازيمودو، أعاني حيرة راسكولينكوف، وأشفق على معاناة كمال عبد الجواد، وأخشى أن تكف شهرزاد عن الحكي، فتلقى مصيرها المحتوم، لم يكن أحد ينصحني أو يدلني، كنت أقرأ بالتداعي رواية عن الثورة الفرنسية، أبحث عن كتاب يؤرخ لها، هكذا جرى حالي بعد أن طالعت روايات جرجي زيدان منذ (أرمانوسة المصرية) وحتى (المملوك الشارد)، والتي يؤرخ فيها للتاريخ الإسلامي، هذه الروايات قادتني إلى الحوليات الكبرى، إلى ما دوّنه المقريزي، وابن إياس، والجبرتي، إلى العديد من المصادر الأخرى عن تاريخ القاهرة خاصة وتاريخ مصر عامة، إلى الحكايات الشعبية، إلى الملاحم التي كانت تروى شفاهة في المقاهي، ثم بدأ تدوينها في القرن التاسع عشر، عندما أسس محمد علي باشا مطبعة بولاق، كانت قراءتي التلقائية تحدد مساري، اطلاع في اتجاهين، ما ترجم من الآداب الأجنبية، ونصوص النثر العربي القديم، من هذين الوافدين تكونت، وبدأت، كان وصولي إلى مقر دار الكتب في باب الخلق نقطة تحول هامة عند بلوغي الثانية عشرة، أتاح لي ذلك الاطلاع على المصادر الكبرى، والتي لم يكن ممكناً لي قراءتها مكتملة من خلال باعة الكتب المستعملة في الأزهر، أو سور الأزبكية، الذي لن أنسى أبدًا يوم بلوغي له بعد ظهر يوم راح مني اسمه، منه اقتنيت نفائس، كان بؤرة إشعاع في وسط المدينة، للأسف لم تعد.

سنوات من القراءة الكثيفة، الرغبة في الاطلاع على أقصى ما تسمح به الطاقة والوقت، سنوات سبقت هذه اللحظة التي أمسكت فيها بالقلم، وشرعت أكتب قصة قصيرة لم تنشر، ظهر اسمي لأول مرة عام ثلاثة وستين في مجلتين، الأديب البيروتية التي نشرت فيها قصة «زيارة»، والأدب المصرية التي نشرت فيها مقالاً يتضمن تعريفًا بكتاب «القصة السيكولوجية»، تأليف ليون إيدل.

منذ أن شرعت في ذلك اليوم، كان لديَّ طموح أعبر عنه ببساطة وحيرة، كنت أريد أن أكتب ما لم يكتب مثله، ما لم أقرأ مثله، في رأيي أن المبدع هو من يضيف جديدًا، على مستوى الرؤية، أو الشكل، هذا الجديد ليس على مستوى ثقافته الخاصة، إنما بالنسبة للتراث الإنساني كله، هذا طموحي، كيف تتحقق تلك الخصوصية؟

بالنسبة لي لاحظت أن ثمة انقطاعًا جرى في القرن التاسع عشر، بعد تأسيس الدولة المصرية الحديثة في عصر محمد علي باشا، في مجال الأدب جرى تأسيس الرواية الحديثة على نمط الرواية الكلاسيكية في الآداب الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، لذلك تؤكد مناهج تاريخ الأدب أن «زينب» لمحمد حسين هيكل تعتبر البداية، قد يجري خلاف حول أسبقية رواية من لبنان، أو سوريا، لكن الخلاف يجري في مسافة زمنية محدودة جدًّا، لا تتجاوز الثلاثين عامًا، بالقياس إلى عام ألف وتسعمائة وأحد عشر، الذي صدرت فيه «زينب» بدون اسم مؤلفها؛ لأن كلمة رواية كانت للشاعر الفقير الذي ينشد الملاحم على الربابة مقابل وجبة عشاء، أو مبلغ لا يتجاوز بضعة ملاليم، ولا يتسق ذلك مع مكانة محمد حسين هيكل بك بالطبع.