|
يتطلع إلى الصبيتين المارتين قربه، يتأملهما، لا تفلت نظراته الحادة تفصيلة واحدة، الشعر المصفف بفوضوية مدروسة، العيون المرسومة بالكحل، الرموش المثقلة بالأصباغ، الحواجب الموضبة، الخدود الموردة بطبقات من الألوان المتدرجة، الشفاة المطلية بحمرة فاقعة، الحُلي المتدلية على صدور مكشوفة تعصرها ثياب تُبدي أكثر مما تستر، السيقان البضة المعلقة فوق كعوب رفيعة عالية يكاد يستحيل حفظ توازن الجسد فوقها، تلكزه زوجته، يلتفت إلى الجهة الأخرى وتعلو محياه ابتسامة واسعة وهو يرى أجنبية ممشوقة القوام تتجاوزه، وتتركه يتمتع بمنظر ظهرها وخصرها الملفوف في تنورة ضيقة لا تصل إلى ركبتيها، تتأفف زوجته بصوت عالٍ، وتدفعه نحو السلالم الآلية المؤدية إلى فسحة المقهى، يشرئب بعنقه ليتابع مشية الأجنبية التي لم تلق بالًا لقلة أدبه، يجلسان في الطرف الأيمن من التراس، ويحرك كرسيه ليقابل السلالم.
تعض شفتها بحنق، وتزفر من تحت خمارها، وتشعر بالقرف من نفسها، ومن حياتها، ومنه. ألا يتعب أبدا؟
ملعونة هي الساعة التي ربطت فيها حياتها بهذا المعتوه المتصابي، اثنان وأربعون عامًا وما زال لعابه يسيل كلما مرت قربه أنثى ؟!
طلبت ليمونًا مثلجًا غير محلى، وحركت كرسيها لتواجهه، لم يشعر بها، بقيت عيناه تبرقان وهما تتابعان صعود ونزول النساء من السلالم، بلعت ريقها وفكرت في الأولاد الذين تركتهم مع الخادمة، ألن يحدث لهم مكروه؟! تخيلت الصغير يحبو ويتعلق برف التلفاز ويسقطه على نفسه، اقشعر بدنها، ودمعت عيناها، العنيد الذي تزوجته يرفض نقل التلفاز إلى مكان آخر، لا يريد أن يوضب حياته على هوى صغاره، الولدان الآخران لا يكفان عن العراك، والخادمة لا تتعب روحها معهما، وعندها حق، شغل الدار وحده يتطلب تفرغًا كاملا، فما بالك برعاية ثلاثة أشقياء صغار لا يهدؤون أبدًا؟
رشفت بعضًا من الليمون وحاولت بلع هواجسها، لم تكن تريد الخروج، رغبتها في الحفاظ على ما تبقى من حياتها الزوجية دفعتها لمرافقته، لا يتورع عن اتهامها بإهماله «حبست نفسك بين المطبخ والأولاد، لم يعد لديك وقت للاهتمام بنفسك، ولا بي، لومي روحك…»
تنهدت، وداعبت من تحت غطاء رأسها خصلاتها القصيرة المصبوغة بلون أشقر فاقع، غيرت شكلها كما يحب، لونت شعرها وأثقلت مكياجها ونوعت لباسها وكرهت نفسها ولم تنل القبول الذي كانت تنتظره منه، ما زال زائغ النظرات يتطلع إلى كل أنثى تعترض طريقه، ولا ينتبه إلى تلك التي تشاركه المر والحلو في حياته. حموضة الليمون بردت أعصابها، طلبت منه أن يعيدها إلى البيت، بالها مشغول على الصغار، لم يسمعها، عيناه كانتا معلقتين بثلاث صبايا اقتربن من منضدتهما، لفحهما عبق عطورهن الثقيلة، فغر فاه، وغاب عما حوله، عضت شفتها بقسوة، عادة سيئة، اكتسبتها من معايشته، كررت طلبها مرتين قبل أن يلتفت إليها، تعود إلى البيت؟ ولماذا أتت أصلًا إن لم تكن مرتاحة للفسحة؟ زمّت شفتيها بشدة لكي لا ترد عليه، وشعرت بطعم الدم.
تلك العادة… يجب أن تتخلص منها!
نهض بامتعاض، سبقها، وجرت لتلحق به، الكعب العالي الذي ارتدته إرضاء له يهدد بإسقاطها، احمر وجهها، وخيل إليها أن كل رواد السوبر ماركت يضحكون عليها، أشاحت بوجهها الملتهب، وتطلعت إلى ساعة المدخل، تأخر الوقت، ما أخبار الأولاد؟ هل ستجد كارثة في انتظارها؟
خفق قلبها بشدة، ونظرت إليه، لِم لا ينشغل مثلها بصغاره؟ هل يملك كل الرجال، مثله، قلبًا باردًا، وأعصابًا فولاذية؟
ألا تذيبهم أبوتهم أبدًا ؟
فتح باب السيارة لها، المقعد الخلفي .. ماذا دهاه؟ ألم يعد يرضى بها قربه؟!
جلست، وضرب بالباب، وأدار لها ظهره.
وابتعد. انطلقت السيارة، وانتبهت فجأة إلى أنها تركب «تاكسيا»! تملّكها الحنق ونظرت إليه من النافذة. لم يلتفت إليها، خطا بعجلة نحو مدخل السوبر ماركت… واختفى.
عرفت أنه ذهب ليتابع ما بدأه.