أجلسُ عند حافّة بئر عميقة وأحدّق في صفحة الماء.
انقضت سبعةُ عقود من العمر، والعقد الثامن واقف بالباب، وما زلتُ ممعنة في التأمُّل.
وأُحاول سَبْرَ أغوار البئر.
***
من أجل ذلك تزوّدتُ بالعلم والمعرفة. مررتُ بشتّى التجارب. عرفتُ مُرَّ الحياةِ وحُلوَها، وما زلتُ واقفةً عند العتبة، وعيني على الباب.
المفتاحُ في يدي، إنّما المداخلُ عديدة، فأيَّها أختار؟
***
هذا السؤالُ يُواجهني لدى كل خطوة؛ وفي كل لحظةٍ أحاولُ فتحَ الباب، لكن، وكلما هممتُ أكتشفُ ان المفتاحَ القديم في يدي قد تحوّل؛ وأمضي لأبحثَ عن سواه.
***
عندما كنتُ طفلةً مارستُ هذه اللعبة، ووجدتُها مسلّية: التحديق والتأمّل.
أجلسُ عند حافة النهر، وأتأمّلُ صحفةَ الماء.
وكنتُ أفرحُ بملاحقةِ الأمواج وهي تتسابق، موجةً تلوَ موجة، ولا تنتهي اللعبة.
في بعض الأوقات، وحين يطولُ التحديق، كان يغلبني النعاس، فأنام.
وأقول لذاتي، عندما أستيقظ: قد تتعبُ الامواج من السبق، وتتوقف، عندها، يصبح بوسعي سبرَ غورِ الأعماق.
***
أما الآن، فلم أعدْ طفلة، ولا حتى صبيّة؛ لكنّ المفتاحَ لا يزالُ في يدي، والبئر محافظة على أسرارها، والأمواج تتزاحم وتُغريني؛ ولا يزالُ بي توقٌ لاقتفاء أثرها.
***
ثمّةَ مشهدٌ آخر يطالعني في هذه المناسبة، في يوم مولدي، وهو سطحُ الدار، وكان مرتفعاً ويُعوزني في تسلُّقِه سلّمٌ عال، وآخ، كم كنتُ أهوى لعبةَ التسلُّق. وأسمع، حتى اللحظة، صوتَ أمي يُلاحقني، مؤنِّباً، وخائفاً:
إنزلي يا شقيّة، إيّاك وتسلّق الدرج الأعلى من قامتك!
كنتُ أسمعُها وأبتسم في سرّي؛ وأبقى مصمِّمة على العصيان؛ فإغراءُ الإرتقاء كان أقوى من تهديدِ أمي وعقابها.
***
وفي يوم مولدي، هذا، أُخرجُ دفتراً عتيقا، أفتحُهُ مرّةً في كل عام، وأدوِّنُ فوق صفحةٍ منه عبارةً واحدة تتكرّر:
موعدُنا في مثل هذا الوقت بعد عام.
***
أما الذي يحدث بين عبارةٍ وتاليتها، فهو جوهرُ الرواية؛ وقد بدأتْ مع خروج الطفلة من قريتها. وتراه، من هذا البُعد الزمني، أشبهَ بخروج "ليلى" في قصةِ الأطفال الشهيرة: "ليلى والذئب".
وهي لم تخرجْ لزيارة الجدّة، بل لكي تبتعدَ عنها، وعن حضن أمها، وكل الدفء والأمان، كي تكتشف المجهول.
ولا تدري ما الذي دفعها الى تلك المغامرة، واختيار المركب الصعب؛ وهل هو الطموح؟ ولم يكن في حياتها مثالٌ تقتدي به، أو يمهّد لها الطريق؛ خصوصاً أنه لم تسبقْها الى المغامرة واحدة من بنات جنسها في تلك القرية النائية. فمن أين أتتْها الشجاعة؟ وكيف ظلّتْ تطاردُ خيالَها والأحلام؟...
***
وتبقى، في سلوكها وفعلها، تلك الطفلة المغامرة، والباحثة أبداً عن المجهول. وتسكب زخم قوّتِها، في الكلمات، والتي بقيتْ رفيقةَ خطاها وحافظة أسرارها.
وتريدُها مجلوّة، ناضجة ومعبّرة، لكي تنقلَ عنها وإليها، رسائلَ الأعماق.
***
وفي يومِ مولدي هذا، أتابع تحديقي في بئر الماضي، لمراجعة الحساب.
لكن همّي يتركّز على القراءة في صفحات الحاضر، وهي تتكشّفُ صفحةً تلو صفحة؛ وفي كل واحدة منها نقلةٌ جديدة، وتحقيقُ رؤى.
***
لكن رؤى الغد تبقى حاضرةً معي، وهي ما يُفعم قلبي بالأمل، وعقلي بالإرادة والتصميم وتحثُّني، في كل لحظة، على أن أتقدّم، ومن دون خوف أو وجل.