الحاديةَ عشرةَ والنصفِ صباحًا، المطعم شبه فارغٍ، ثلاث مناضد مشغولة فقط، كهلٌ يتصفح جريدة، ويحتسي فنجان قهوة لم يُفلح في إنهائه منذ نصف ساعة، سيدتان تتحدثان بصوتٍ خفيضٍ، وتديران ظهريهما للصالة، طلبتا عصيرًا غير مُحلَّى، وتوقفتا عن الكلام عندما أحستا باقترابي، وشاب لم يرفع عينيه عن شاشة حاسوبه، الجو محموم في المطبخ، الوقت يجري، والأطباق لم تُجهز بعد، عما قريب سيتدفق زبائن الغداء، مررت منشفة معطرة على الشراشف القرمزية المغطاة بمربعات بلاستيكية شفافة، المدام تراقبني من خلف مكتبها في الزاوية، ولا تبدو في أفضل حالاتها، أمامها ملفات الفواتير، نحن في آخر الشهر، والأمور لا تمشي كما تريد.
المدام قاسية، لم يسْلم أحد من عمال المطعم من لسانها، سخنت الشاي وتنفست الصعداء وأنا أرى الطباخة تضع اللمسات الأخيرة على أطباق اليوم،نادتني المدام وأمرت: «أخبريهم أن عليهم أن يغادروا «إن لم يرغبوا في تناول الغداء، هذه ليست كافيتيريا، ووضعنا لا يسمح برد زبائن حقيقيين!
ابتسمت وهي تنظر لسيدة مسنة دفعت الباب بحياء، ووقفت بارتباك عند العتبة.
ماذا تنتظرين؟ رحّبي بها » أمرتني، وهرعت إلى السيدة.»
غطاء رأسها الأبيض ومعطفها القطني الطويل مبللان، لم تكن تحمل مظلة، يمناها تتشبث بحقيبة يد جلدية قديمة، ويسراها تعبث بارتباك بياقة معطفها المسحوبة نحو الأعلى.
«أهلاً وسهلاً، مازالت تمطر، أليس كذلك؟ هل أساعدك على خلع معطفك؟ »
لا، شكرًا»، ردت وقلّبت نظرها بخجل في الصالة.»
«تفضلي»أخذتها إلى أبعد منضدة عن تيار الهواء، سحبت لها الكرسي، وقدمت لها لائحة الطعام، ولكنها ردتها لي «سأنتظر ابنتي، واعدتني هنا».
ابتسمت وتركتها.
حلَّت الثانية عشرة، وبدأ تدفق الزبائن الذين تعودوا على تناول الغداء عندنا، فترة المنتصف تشهد رواجًا لا نعرفه بقية اليوم، أمرتني المدام بنبرة ساخطة بأن أخلي فورًا المناضد الثلاث التي لم يحجز أصحابها وجبة الغداء، ونفذت بامتعاض أمرها، حملق فيَّ الشاب بشرود، وأغلق حاسوبه وقام دون مناقشة، وجمع الكهل جريدته، وقال إن البشر يستحقون ما يلاقونه من مصائب، فوقاحتهم لا حدود لها، وأعلمتني السيدتان بأن عليّ أن آخذ دروسًا في فن التعامل مع الزبائن.
مرت ساعة والمرأة المسنة تنتظر، وابنتها لا تظهر.
نادتني المدام، وأمرتني بأن أخيِّر السيدة بين الأكل أو مغادرة المكان، «وضعنا لا يسمح بأن نرد زبونًا من أجل آخر قد يأتي، أو لا يأتي!»
اقتربت بحرج من المرأة.
«يجب أن أطلب شيئًا، أليس كذلك؟»، فاجأتني قبل أن أنطق بكلمة «لا بأس؛ ابنتي تعمل في شركة كبيرة، هل تعرفين؟ ومديرها صارم جدًّا، أعتقد أنه أخّرها، لم أرها منذ عام وسبعة أشهر، كان من المفروض أن تأتي في إحدى عطلات الأعياد، لكنه لم يسمح لها، لا تستطيع حتى مكالمتي، الشغل الذي ينهكها به يأخذ كل وقتها، ما بدها حيلة، اشتقت لها، وقررت أن آتي أنا لرؤيتها، كان عليّ أن أفعل ذلك من البداية، أنا غير مشغولة، ووقتي غير محدود، جئت هذا الصباح، وهاتفتها، وأعطتني عنوانكم. تركت حقيبتي في المحطة، لا يمكنني الذهاب إلى شقتها، المكان صغير، وهي تقيم مع ثلاث شابات...».
«لمياء!» نادت المدام بغضب، ومدّت لي المرأة لائحة الطعام بيد مرتجفة «أنا أثرثر كثيرًا، سامحيني، لا أريد أن أتسبب لك في مشاكل مع رئيستك، سآخذ سلطة وشوربة، لا، لا أريد شيئًا آخر، كم... كم سيكلفني ذلك؟»
شعرت بغصة وأنا أدير ظهري لها.
من أي طينة عجنت ابنتها؟
تجاهلت نظرات المدام الحانقة، وتوجهت نحو المطبخ، أضفت لوجبة السيدة قطعة لحم كبيرة وطبق فاكهة، وهرعت إلى الصالة.
للتفاعل مع الكاتبة يمكنم مراسلتها على البريد الالكتروني [email protected]