رسالة من سيدة مجهولة


قلبت الشقة رأسا على عقب؛ بحثا عن مستند هام في قضية ظالمة، نبشت كل الأدراج والدواليب، وبحثت تحت الأسرّة والأرائك والكراسي، حتى السجاجيد.

وبينما أنا أفعل ذلك، سقطت في يدي ورقة مصفرة متربة متهرئة.

ظلت الورقة في يدي بالصدفة، وحين انتهيت يائسا من البحث عن المستند الحيوي الحاسم لقضيتي، رأيت في يدي تلك الورقة العجوز.


فتحتها متلهيا عن كمدي، فانفتحت لي كقلب وردة نائمة، كانت خطابا ينتهي بأحرف «م.ن» بدلا من الاسم، وكان من الواضح أن كاتب الرسالة امرأة.

تقول:

سيدي العزيز، لقد فكرت عشرات المرات قبل أن أكتب لك، فأنت لا تمت لي بصلة مباشرة، وربما كنت لا تعرفني، بل ربما لن تعرفني أبدا في يوم من الأيام.

أما أنا فأعرفك بعض الشيء، أراك كل صباح وأنت تروي حديقتك، وتحنو على نباتاتك، فأنا أسكن قريبا منك.

ألهمني هدوؤك ووداعتك وطيبتك البادية أن أشكو لك همي، وأفضفض لك، مطمئنة أنك ستتعاطف معي في قلبك، حتى إن لم أقرأ هذا التعاطف في وجهك، وآمنة من مغبة الشكوى لشخص يعرفني وما يحتوي هذا من مذلة، وما قد ينتج عنه من خطر.

لن أطيل عليك، سأنتقل إلى الموضوع رأسا.

كنت في طفولتي أحب الطيارات الورقية، وأطيرها مع أصحابي من فوق السطح، كان الصبيان والبنات يسخرون مني، قائلين إنها لعبة أولاد، لكنني بهرتهم بمهارتي فانقادوا لي، وصرت زعيمتهم وصانعة طياراتهم، بل لم تعد تجرؤ طائرة ورقية على التحليق إلا بإذن مني.

وفات من السنوات ما يكفي لينحتني الزمان امرأة، وغصت في عالم الأنوثة حتى نسيت ميراث الطفولة.

ومضت سنوات أخرى، صرت في العشرين، ورأيت في عيون الناس مرسوما فرطَ فتنتي وجمالي، أكسبني هذا زهوا وزعامة بين أترابي، ذكرتني بزعامتي طفلة في عالم الطائرات الورق.

وقف الخطَّاب صفا طويلا على أعتاب بيتنا، صرت أفرزهم بعينيَّ، ثم بقلبي وعقلي وحسابات الناس والمجتمع حتى استقر رأيي على رجل حرّك حبي القديم والجديد.

كان طيارا مدنيا، حرك فيَّ طفولتي وصباي معا، وأرضى غريزتي الاجتماعية؛ لوجاهة منصبه ووفرة دخله، وتمت الخطبة، ثم الزواج، ومضت سنون أخرى، سقطت الطائرة بزوجي في البحر.

لم أكن قد أنجبت منه، وتزوجت مرة أخرى، كان مقاول إنشاءات غنيا جدا، لكنه كان فقيرا جدا في الإحساسات والعواطف الرقيقة، وبخيلا بالاهتمام والحب إلى حد المجاعة، لقد مضى عصر الطائرات، سواء كانت من ورق أم من حديد، وجاء عصر الأرض المحفورة لوضع أساسات بناء مشكوك في متانته.

وفعلا سقطت عمارة من عشرين طابقا؛ لبخل زوجي بالأسمنت وحديد التسليح، ودخل المقاول الكبير السجن، وجر وراءه المهندس الذي كان عبد المأمور.

أخطأ زوجي في الحساب فدخل السجن، وأخطأت أنا فتزوجته.

طُلِّقت من زوجي وهو في السجن، وكنت قد بلغت الأربعين، كهلة فقيرة على قدر من الجمال أغرى بي شابا وأغراني به.

وأخذت أكبر وأوغل في الكبر حتى ذبلت وهو ما يزال شابا، وتحجر قلبه نحوي شيئا فشيئا؛ حتى سرق كل حُليي وذهب.

الآن صرت وحيدة لا أجد من أكلمه حتى نسيت الكلام، لكنني وقد رأيت عينيك طيبتين، ولو عن بعد، قلت في نفسي هذا رجل له قلب، فاصفح لي تطفلي.

ملحوظة: هل أحلم بأن تكتب لي يوما؟ لكنك تجهل عنواني، وهذا أفضل.

المعذبة «م.ن»

تُرى... هل قرأت هذا الخطاب من قبل ثم نسيته، أم أهملته وألقيته جانبا بعد أن فضضت الظرف؟ لعله لم يكن في ظرف من الأصل، ربما ألقيت الورقة ليلا على عشب الحديقة، إذ تعلم كاتبته أني سأكون أول من يكتشفه في الصباح المبكر. أيا كان الأمر. وددت أن أعرف الآن من هي وأين تكون، فقد مر الزمان وصرت في حاجة لمن أكلمه، أحنتني الهموم؛ حتى كاد يلامس رأسي الأرض، ونهشت أعصابي وأموالي قضية ظالمة، هجرتني زوجتي ساحبة وراءها أبنائي، متهمة إياي بالضعف والتخاذل، ويعلم الله مقدار ضعفي وما زلت أقاتل، لكن أصعب ما في الأمر أن التهمة غامضة، والذي رفع الدعوى مجهول لكن القضية رغم ذلك مازالت مرفوعة، تتأجل عشرات المرات لكنها لا تنتهي.

أين أنت يا «م.ن»؟

لم تعد لي حديقة.