الأذن تعشق قبل العين أحيانًا، وهكذا كان معي، عشقت كلامه قبل شكله، ونسجت
الصور الوردية حول شخصه، بسذاجة المراهقة أحببت كلامه العذب عبر أسلاك الهاتف
وغرفة الدردشة، رأيت فيه فارس أحلامي، فتعلقت به، وملأت به أوقات فراغي،
فغرتني أفكاره المتفتحة وروحه المرحة وهي تغرقني نكتًا ليلاً، حيثُ أختلس طوال
الليل الساعات معه، بعيدًا عن عيون عائلتي، بعد أن تكون قد غفلت ونامت، كنا نحتكم
على حاسوب واحد بالبيت، أقتسمه مع أخي الأصغر، فلعلعت وذرفت شيئًا من دموع
التماسيح، وعللت احتياجي إليه بالتحضير للامتحانات، وكان أن جعلوه يترأس أحد الأركان
بغرفتي، ومن يومها لا تحضير للامتحانات، ولا اهتمام بالأكل، توهان.. سرحان..
تامر حسني أصبح يرافقني بأغانيه، ويدغدغ العاشقة بداخلي، تعارفنا كان أكثر من
العادي، ساعات ملل كنت أعيشها تلك الليلة، بعد أن غادرت عائلتي البيت لعزومة
فرح لأحد الأصدقاء، وبعد أن جلت ومحصت في كل القنوات، هداني تفكيري إليه، بدأ
الأمر بتصفح بعض مواقع النجوم، دخولاً إلى موقع نكت وبالتالي دردشة،
الحاسوب أعتبره اليوم كسوق عامة مفتوحة، فيها الطالح والصالح، أو كبركة مائية
عكرة، والشاطر هو الذي يعرف السباحة بها والخروج منها سالمًا.. انطلقت أدردش باسمي
الحقيقي، لأن الخبرة كانت تنقصني، والتقيته، فسلام... فكلام... فتبادل إيميلات...
وموعد باللقاء غدًا على نفس الغرفة، وهكذا بدأ ينمو الحب الأفلاطوني، فاطلع
على كل صغيرة وكبيرة في حياتي، أرسلت له صوري، ولم يبادلني ولو بصورة من
صوره، مقنعًا إياي أنه يبحث عن اللحظة المناسبة لذلك، وسأغرم به أكثر مما أغرم بي،
وأصبحت أتطلع بلهفة إلى لقائنا اليومي، ومن يومها لا تسمع في البيت إلا: «سكوت..
البنت تستعد للامتحانات»، «لا تزعجوها، يا قلبي سهرت الليل، تحفظ للامتحان»،
«اتركوا لها فطورها البنت عليها أن تكون شبعانة للامتحانات»، وهكذا «دلعوني الدلع
كله»، وأنا أسبح في هيامي كبطلة من بطلات رواية «أخد قلبي ولم يعد».
واستمر الأمر لمدة ثلاثة أسابيع، إلى أن أصبح يشاكسني، ويختلق لي
المشاكل تلو الأخرى، لدرجة أنني كنت أريد أن أضغضغ جمجمته، وأرميه للنفايات، لا
ليس فارسي العنكبوتي، بل الحاسوب، جلاب المصائب، وانقطعت أخبارنا بسبب هذا اللعين
الذي اقتنص «فيروسًا»، بعد أن كنا اتفقنا على اللقاء، أصبح التوتر سيد الموقف،
حيرة وقلق، تلاه رسوب في الامتحان، وعطلة صيفية مليئة بالعقاب، وصارحت
صديقتي بأن الحاسوب أحيل على التقاعد، وأنني تعرفت على فارس أحلامي، وكنا على
مجرد أن نلتقي، لكن ابن اللعينة غدر بي، فحنت وكشفت هي بالتالي أمرها، لقد
استلطفت هي كذلك عنكبوتي، لكنه عديم الضمير، أصبح يبتزها بصورها، ويهددها «يا
اللقاء.. يا الفضيحة»، الغريب أنه كان يحمل نفس مواصفات فارسي العنكبوتي، واكتشفنا أننا
وقعنا في مخالب عنكبوت واحد، فأحببت حاسوبي المشلول عطبًا، لأنه حسم الأمر،
وأعلن عدم خوضه معي مغامرة الوهم، فشلّ حركته «فيروس» وارتاح، لكنها هي مازالت
متورطة، فكيف العمل؟ «أوريكا.. أوريكا» صحت بأعلى صوتي مرددة، «ما دخل
أرشميدس ونظريته في الأمر؟»، «أمهاتنا، بيدهن الحل» قلت واثقة، «لكن يا غبية،
توقعي علقة ساخنة، أنسيت أن أمك تحتكم على يدين كالجزار!»، «لم أنس، ضربة أمي
ولا عنكبوتي يشخبط لاخبيط في حياتنا». وصارحنا أمهاتنا بالأمر، ونصبنا للعنكبوتي
فخًّا، وكم كنت متحمسة لذلك، فأخيرًا «أكشن» حي سنعيشه، وما إن رأيناه، حتى علت
محياي أنا وصديقتي الدهشة لطلعته البهية «يا خبر، فارس أحلام حقيقي!»، وحتى لا
أتطاول، أقول فقط «إسماعيل ياسين كان أوسم منه ألف مرة»، ونزلنا عليه ضربًا
بالشباشيب، وأمي السخية أعطته لكمة متقنة، وفرّ هاربًا، ولم أسلم أنا من يومها من
شبشاب أمي، أبي يستغرب تصرفها العدواني تجاهي فجأة، ويتساءل عن سبب تسديد لكماتها
لي، كلما أعلنت عن رغبتي في الحصول على حاسوب جديد، هو مازال يجهل إلى اليوم، أن
لكماتها وشبشابها هما اللذان أنقذاني من فارس الأحلام العنكبوتي، الله لا يرحمنا
من شباشيب ولكمات أمهاتنا، لكن حَذَارِ يا بنات،
واستعدوا بصدق للامتحانات.