يصبح جيراني اجتماعيين مرتين في العام، مرة في الربيع، ومرة في الخريف، إنه تقليد نرويجي يدعونه «يوم الأعمال التعاونية المشتركة »، يخرج السكان بعدتهم الكاملة، وينظفون الممرات المشتركة، ويكنسون الطرق والشوارع، ويجمعون الأوراق اليابسة، والأزبال، وأعقاب السجائر، ويمسحون الغبار، ويشذبون الأعشاب، ويسقون النباتات.
خرجت أقوم بواجبي في حملة التنظيف، وقاومت رغبة عارمة في رمي مكنستي أرضًا والعودة إلى بيتي لإنهاء تطريز الجلابيات والقفاطين التي تعاقد معي مسؤولو غرفة الصناعات التقليدية النرويجية لإنجازها، قدمت إلى «هورتن» من أجل هذا، مستقبل الجمعية المغربية التي أمثلها مرهون برضاهم عما نقوم به، تطلع إليَّ جيراني بفضول حين حاولت أن أشرح لهم أنني لا أستطيع المكوث طويلاً معهم، لأن ثمة ما ينتظرني في البيت، وبادروني بخشونة: «هراء... كلنا مشغولون، ولكن اليوم يوم استثنائي، أليس كذلك؟ بالمناسبة، هل صرت تتحدثين النرويجية الآن؟» سبعة أو ثمانية أشخاص على الأقل وجهوا إليَّ نفس السؤال الساخر، لم أحب نبرة التعالي التي شابت كلامهم، أخبرتهم بانفعال بأنني أحاول أن أتعلم لغتهم، وتساءلت إنْ كان عليَّ أن أشعر بالامتنان نحوهم لأنهم كلفوا أنفسهم عناء مخاطبتي، وهم الذين لا يكترثون بي عندما أمر قربهم في باقي أيام السنة!
تعاونت في التنظيف مع شابة لطيفة لم أرها من قبل، ابتسمت لي بعذوبة، وكانت أول شخص يفعل ذلك، سألتها أين تسكن وصعقت عندما أخبرتني بأنها تشغل البيت الذي يبعد بضعة أمتار فقط عن مسكني، انتقلت حديثًا إليه؟ سألتها وأنا أحاول أن أتذكر منْ كان يشغله قبلها، وفغرت فمي غير مُصدقة عندما أخبرتني بأنها تسكنه منذ أربعة أسابيع!
أين كانت عيناي كل هذا الوقت؟
وجدنا ونحن ننظف أحد الممرات السفلية بابًا مقفلاً بإحكام، جاء باقي الجيران وحاولوا تخمين ما يختبئ خلفه، وبدأوا في حبْك السيناريوهات الهوليودية غير المعقولة، مخدرات، بضائع مهربة، أسلحة، مسروقات، تواصل الهذيان حتى بعدما رأينا من خلال نافذة جانبية قاعة قذرة ملأى بالملصقات الموسيقية وعلب المشروبات الفارغة، بدأ البعض يتهم شباب العمارة بالعربدة هناك، وتبين سريعًا أن ابن إحدى الجارات هو منْ كان يستغل المكان للسهر مع أصحابه وسماع الموسيقى.
تناولنا الطعام بعد الانتهاء من التنظيف، وتحدثنا في موضوعات مختلفة، وصحّحت نظرتي المغلوطة عن الجيران، يصبحون لطفاء عندما يريدون، ويخف ظلهم أيضا، لكنني لم أفهم لماذا يصرون على تجاهل بعضهم بعضًا طيلة أيام العام، لا أنتظر منهم أن ينظموا حفلات عشاء مشتركة كل أسبوع، ولكن تحية صباحية أو حتى ابتسامة صغيرة من حين لآخر لا يمكن أن تؤذيهم.
اكتشفت عندما عدت إلى مسكني بقعة أوساخ سوداء فوق أنفي، قذارة علقت بي أثناء التنظيف، أتظنون أن أحدهم كلف خاطره عناء تنبيهي إليها؟ لا.
كانت تلك آخر مرة أشترك فيها في يوم الأعمال التعاونية في «هورتن»، أعجب مسؤولو غرفة الصناعات التقليدية بالأزياء التي خطتها، وطلبوا المزيد، وقررت الجمعية المغربية أن تعوضني بشخص ثان، كان عليَّ الرحيل إلى دولة أوربية ثانية للبحث عن سوق جديدة.
حزنت كثيرًا، واندهشت من ردة فعلي، لم أشعر بدفء كبير في «هورتن»، ولم أستطع نسيان حياتي هناك رغم ذلك، فكرت وأنا أنتظر الطائرة بأنني لن أكنس مجددًا الشوارع، ولن أغسل زجاج النوافذ، ولن أشارك في ولائم الأكل الجماعية الضخمة، ولن أرى الجيران الذين لا يلتفتون إلى بعضهم إلا مرتين في العام.
شعرت بغصة مرة.
محزن كل هذا.