تذكّرتُ مطلع قصيدة للشاعر أحمد شوقي: قُمْ للمعلِّم وفِّهِ التبجيلا كاد المعلِّم ان يكون رسولا / وذلك عندما قرأت وصفاً لحادثة ثأر بين تلميذٍ سابقِ ومعلِّمه.
***
وممّا جاء في وصف الواقعة أنّ التلميذ، وهو اليوم يقاربُ العقد الرابع من عمره، ما كاد يشاهدُ معلِّمه السابق في حفلة زفاف، حتى "استرجع ذكرياتٍ مؤلمة معه، فانهال عليه ضرباً، حتى فرَّ هارباً أمام مئات الحاضرين".
***
هكذا وصفت الصحيفة المشهد.
لكن مشهداً آخر كان قد سبقه، ويعود الى مرحلة الدراسة؛ وحين كان الجاني تلميذاً في الصفّ الثاني ابتدائي؛ والمضروب كان أستاذ اللغة العربية، ويُسيءُ معاملتَهُ، يحتقرهُ، بل ويضربه بالعصا، نزولاً عند نُصْحِ المثل العربي القائل: "أدِّب ولدَك، ولو بعصا من حديد".
***
ولم يكن يضربه للتأديب، بل للإهانة.
ويذكر قريبٌ للتلميذ ان الضربَ على تلك الصورة، تسبّبَ للطفل اليتيم بمشُكلاتٍ نفسيةٍ كبرت معه ولم تفارقْه.
ولذلك، ما كاد يُبصرُ أستاذَه بين المدعوين الى حفلة الزفاف، حتى استفاقتْ في وعيه تلك الذكرياتُ الأليمة، وكانت غافيةً مثل الجمر تحت رماد الأيام؛ فهبّ، وهو في عنفوان الشباب، لينتقمَ للطفل اليتيم في كيانه.
***
هذه الحادثةُ تدفعُني للكتابة عن أمرين يتعلّقان بالحدّث: الأوّلُ تربوي، والثاني له صلة بتعليم اللغة العربية؛ وكلاهما قريبٌ مني، إذ اخترتُ التربية، إبّان دراستي الجامعية، مادّةً لتخصّصي، كما مارستُ تعليمَ اللغة العربية للصفوف الابتدائية والمتوسِّطة. أي اني عشتُ تجربةً جعلتني أقتربُ من الأطفالِ والأحداث، كما أتواصلُ مع لغةٍ أحببتها؛ ونشأتْ بيني وبين التلامذة علاقةُ صداقةٍ وثقة، إذ حاولتُ تقريبَ اللغة من أذهانهم عن طريقٍ مختاراتٍ للقراءة، يُحبّونها، وتتصل بحياتِهم وخبرتهم.
وكنت دائماً، أُركِّزُ على القصة، وهي عتبةُ المرورِ الأولى لجعلِ الطفل يحبُّ اللغة ويقتربُ منها، وبالتالي يتعوّدُ قراءتها.
***
كانت هذه العناصرُ كلها تقف وراء اندفاعي، فيما بعد، الى كتابةِ القصة للأطفال وللفتيان، إذ لا يكفي، من أجلِ تقريبِ اللغة من ذهنية الطلبة الصغار، أن نّدَرِّسَ القواعد، وبالأسلوب الجافّ الذي كان يسيطر على التعليم التقليدي؛ ولا يزالُ سائداً في بعض المناطق حتى الآن.
***
وقد ذكّرتني الحادثةُ الأليمةُ عن انتقامِ التلميذِ من أستاذه، بأسلوبٍ جافٍ كان يعتمدُه أساتذة اللغة العربيةِ، وكأنما مدرِّسوها يرفعون جدرانَ فصلٍ بين التلميذ ولغته. أو كأنّهم يغرسون في وعي التلامذةِ بذرةً عدائية تدومُ وتتواصلُ معهم مدى العمر.
***
نعم، إن أسلوبَ تدريس اللغة العربية لا يزالُ يُعاني، وفي معظم البلدان العربية، وحيثما يهيمنُ أسلوبٌ تقليديّ يدفعُ الطلاب الى هَجْرِ اللغة والإبتعاد عنها حتى أقصى مدى.
***
ويزداد الخطرُ في زماننا حين نرى ونشعرُ بقوّةِ الغزو الذي يجتاح لغتَنا، ويجعلها تبدو وكأنها من الكماليات لا الضروريات.
***
أعلم أن هناكَ جهوداً تُبذلُ من قِبَلِ المربين والمهتمّين بتدريسِ العربية، إن من خلالِ تطويرِ الكتابِ والتأليف، أو اختيارِ أسلوبٍ حديث وجذّاب لتقريب اللغة من ذهنِ التلميذ، ولكن هذا لا يكفي، لأن التحدّي كبير. وأنا أعيش حالياً الحالة مع حفدائي، وبكل صراحةٍ أقول إنّ اللغات الأجنبية تسرقُهم كل يوم من لغتِهم الأم، وبكثيرٍ من السحر والجاذبية، إن في تأليفِ الكتبِ التي تَلقى قبولاً لدى مختلَفِ الأجيال، أو تبسيط وتطوير أساليب التعليم، حتى تصبحَ اللغةُ مادةً سائغة وسلسة، وباباً يلجون منه الى اكتشاف ما يتوقون ويطمحون إليه من علم ومعرفة.
***
وهناك جهودٌ تُبذل على مستوى دولي، لإرساء نهضة فكرية عربية، إن في تنشيط حركةِ النشر، وإقامةِ معارض للكتب، أو إعطاء الجوائز التي تُثير المزيد من التحفّز والنشاطِ في التأليف؛ لكن هذه كلها تبقى محدودة ما لم نعُدْ الى البدايات والى الأُسُس التي يستند اليها تدريسُ اللغة.
***
وأعودُ أخيراً الى بدء كلمتي، والى مشهدٍ غير عادي في حفلة الزفاف، حيثُ أقدَمَ التلميذُ على ضربِ المعلّم، وكأنّه بفعله ذاك، يقلب القيم والمفاهيم، ويُنبِّه الى خَلَل ما لا يزال قائماً، ويدعونا الى المبادرة بالإصلاح، ونقد القيم والتقاليد التي لم تعدْ تتماشى مع العصر، ومنها الدعوة الى تأديب الولد ولو بعصا من حديد.