أبدأ بترتيب أغراضي في الغرفة، ملابسي، علب أدويتي التي تحتويها حقيبة صغيرة، أدوات الحلاقة، الكتب التي أحملها، لو تحتوي الغرفة على فراشين، أختار أحدهما، لو الفراش عريض، أنحاز على موضع دون الآخر، لا يواتيني النوم إلا إذا قامت بيني وبين المكان صلة، مهما قصرت المدة التي سأمضيها، حتى ولو ليلة واحدة كتلك.
لم أخرج. استغرق سفرنا وقتا؛ لأنه على مرحلتين، من القاهرة إلى باريس، تقلع الطائرة الفرنسية في الصباح الباكر، السابعة صباحًا، انتظارنا طال في مطار أورلي حوالي خمس ساعات بعد انتقالنا من مطار شارل ديجول، من أقصى شمال المدينة إلى جنوبها، من باريس إلى مونبلييه، تنتظم مدن الجنوب على مسافات متقاربة، البحر نفسه الذي اعتدت الوقوف على شاطئه المقابل، هناك في أقصى الجنوب الشرقي، شاطئ الإسكندرية ذو الخصوصية، رغم أن البحر لا يبدأ من مكان، إلا أن انطلاق المتوسط، تدفقه بالنسبة لي يبدأ من الإسكندرية، هكذا أوقن.
لن أخرج على الطرقات القريبة ليلاً، سأتعرف إليها في الصباح الباكر، قبل أن يستيقظ صاحبي، المدينة صغيرة، والسفن راسية أمام الفندق مباشرة تتوالى على الامتداد.
قبل صعود السلم الخشبي، لمحت لوحة المفاتيح فوق المكتب، باستثناء الخانتين، كل المفاتيح معلقة، مفاتيح الحجرات فقط الأصغر حجما، ثمانية، هذا المبنى الفسيح لا يضم إلا تلك الغرف، وجود المفاتيح هنا يعني خلوها.
ودعتنا مرافقتنا بعد أن تركت لدى كل منا أثرًا من ابتسامتها الأفقية، الفسيحة، تمنيت لصاحبي ليلة هادئة، صعد إلى الطابق الثاني، فوقي مباشرة، رقم حجرتي اثنان، ورقمه ستة، أحرص دائمًا على حفظ أرقام الغرف التي يقيم بها من يرافقني، أو طريقة الاتصال بمكتب الاستقبال، أخشى أزمة مفاجئة، أن يحل بي تعب مفاجئ، قبل سنوات لم يكن هذا في حسباني ،أو من ترتيبي، لم تتضمنه طقوسي.
فتحت الباب، بدا السقف منخفـضًا أدرت المفتاح مرتين، فتحت الحقيبة، بدأت أرتب الملابس، وما تبقى من حاجات، الحجرة هادئة، صمت، النافـذة مطلة على القناة مباشرة، زجاج ثم ستارة خفيفة، ستارة سمكها أشد كثافة، يمكن إنزالها من أعلى بواسطة حبل مزدوج، أزحت الستارة الخفيفة، أضواء متناثرة، واضح من تفاوت مستوياتها أن الناحية الأخرى مرتفعة، أرض غير منبسطة، سنرى في الصباح، القوارب هادئة يبدو أنها خاصة بالصـيد، عنـدما أنزلت الستارة لأحجب هسيس الضوء المتسرب إلى الفراغ المؤطر، صرت إلى الغرفة، وصارت إليَّ، حيز محدود مغطى بورق حائط، أو قماش عتيق، تغلب عليه الزخارف النباتية، واللون السماوي.
«إذا كانت المفاتيح كلها في اللوحة فلماذا لم ينزل صاحبي في الغرفة المجاورة أو أخرى في الطابق نفسه؟».
مجرد تساؤل عابر، لم أتبعه بآخر، لو تتوالى الهواجس، لم أفكر في المبنى الضخم، وعدد الحجرات القليل. أو الفراغ الذي يكمن خلف هذا السقف المنخفض، لم أشعر بمثل هذه الإحاطة في أي غرفة أقمت بها إقامة عابرة، تدثرت باللون الأزرق الذي يحتويني، بغصون النبات المجردة، بالأوراق الموزعة، تساءلت عن العيون المتعاقبة التي تطلعت من موضعي هذا في نفسي، أسئلة عديدة تتوالى لكنها لا تمكث، مثل من الذين تمددوا فوق الفراش عينه، من سيجيء بعدي؟ لو أنني في غرفة أخرى لشغلتني إحدى هذه التساؤلات، وما يتفرع عنها، جففت ما تبقى من رذاذ الماء الدافئ، عدت إلى الغرفة، مألوفة، قريبة، كأنني مقيم منذ سنوات عديدة، كأنني آوي إلى هذه الدرجة من اللون منذ ليال يصعب حصرها وليس أول مرة، يهدهدني اللون، تغزر الألفة، ألفة من نوع خاص، تنبع من تلك الجدران، وتنتهي عندها، لم تواتني الهواجس المألوفة، تلك العتيقة، بعد بدءٍ عليَّ وخشيتي من موت الفجأة في الغربة، تمنحني الجدران المتقاربة والفراغ المحور الذي أتحرك فيه بحذر يقينا بدرجة من البعد لم أعرفها من قبل، كأني بلغت أقصى المعمورة، مكان لم يطأه نفر قبلي، درجة من الصمت المستقر، الثابت، لا تنفذ عبره هسَّة، هذا ما لم أعرفه في أي مكان حللت فيه من قبل، ولم أعرفه من بعد، أجهل موقع البناية، وعندما أرغب في استعادة درجة اللون وزخارف الغرفة، أغلق الفتحات كافة في الموضع الذي يحتويني، أقصي كافة الأصوات، أغمض عيني، عندئذ تمثل عندي الزخارف، ويتدفق اللون السماوي هادئا، مهدئا.