كانت الرواية مكرّمة في خلال معرض الكتاب الثالث والخمسين الذي أُقيم في بيروت؛ وهي المدينة المختارة لهذا العام من قبل اليونسكو لتكون "عاصمة عالمية للكتاب".
وقد شاركتُ في الندوة الأولى، تحت عنوان" الرواية والغربة".
وشعرتُ بأن هذا العنوان موجّه اليّ بالذات، لأن أربعاً من رواياتي تدور في فلك الإغتراب.
<<<
وعندما كتبتُ الرواية الأولى، "طيور أيلول" في مطلع ستينات القرن الماضي، لم أكن قد ذقت طعم الإغتراب.
لكني عشتُ في مناخ الغربة مع أجيال من عائلتي بدءاً بجدّتي، ووصولاً الى أبناء قريتي، ووطني.
<<<
وكان للجدّة إخوةٌ مهاجرون، ونعرف أسماءَهم ووجوهَهم من خلال صورٍ شاحبة، باهتة، معلّقة فوق الجدران.
وكان اغتراب تلك الأجيال حقيقياً؛ يرحلون ولا يعودون.
بلى، كانت تعود أنباؤهم، مُكبَّرة حيناً، أو مُختصرة، مصغّرة في معظم الأوقات.
وحين يموتُ واحدٌ من إخوة جدّتي، كان الصمتُ يُخيِّم على الديار، ويتَّفقُ أفراد العائلة على إخفاء النبأ عن الجدّة الى أن يكون الوقت مؤاتيا.
وكنا نحن، صغار العائلة، نقيم في الحزن والقلق، ونبقى مُتخمين بذلك السرّ الغامض: الموت.
<<<
كبرتُ، وبقي ذلك الحزن الغامر في قرارة ذاتي، إذ لا أحد يشرح للصغار معنى ما يجري الى أن يرتفع صدى النواح الحزين.
<<<
وكانت المطارحُ تُشاركنا لوعةَ الفراق.
فمناسبات الوداع في ساحة القرية دمَغَت طفولتي، وبقيتْ معشِّشة في الذاكرة.
<<<
ثمّةَ مشهد لا أنساه أبداً، وهو التقاء المسنّين في مركز البريد، وكانوا يسمّونه «البوسطة».
وألِفنا «البوسطجي» يحضر مرّتين في الأسبوع، راكباً على ظهر فرس، إذ لم تكن الطرق مُعَبَّدة للسيارات.
وكانوا ينتظرون وصوله مثلما تُنتظر الوعودُ الجميلة. ويأتي حاملاً اليهم من تلك الغربة البعيدة، الغامضة، ومن القارات المجهولة، رسائلَ الأحبّة.
<<<
وتكون الرسائلُ مُحمّلةً بالأخبارِ السارّة والعون المالي، وصورِ الأحباب والغيّاب حيناً، أو ناقلةً نعْيَ قريبٍ أو حبيب في بعض الأحيان.
<<<
وفي ذلك الزمان، كان للغربةِ وجهٌ آخر ومختلف، خصوصاً عندما يعودُ أحدُهم كي يزورَ الأهل، ويختار عروساً مناسبة.
وهي حالةٌ لكثرة ما تكرّرت، دمغَتْ حياة المقيمين، وصارت إطلالةُ فارس ما، من وراء البحار، حلمَ الصبايا والمراهقات.
يجيءُ، ويخطفُها من حياةٍ خاملة خامدة. أمّا ما يحدث هناك، فيبقى في علم الغيب.
<<<
في الواقع، ان مناخَ الغربة كان يُسيطر على الناس الباقين في القرية، فيعيشون في الإنتظار تارةً، وطوراً في مداراةِ تلك المسافة القائمة بين عالمين، بسردِ الحكايات التي تنقلُ أخبارَ المغتربين، خصوصاً أحوالَ النجاح، وتكونُ مُضَخَّمة في كثير من الأوقات.
<<<
ولم تتوقف الهجرة مع جيل الأجداد، بل ظلّتْ تتواصل مع الأجيالِ التالية، وصولاً الى جيلي وجيل إخوتي.
ولم تكن عائلتي تختلف عن السياق المألوف في محيطنا.
ومثلما سجّلَ الأهل إسمي في دائرة النفوس في إثر ولادتي، كذلك سجّلوني في دائرة الهجرة الأميركية، وعلى لائحة ما كان يُعرفُ بالكوتا؛ أي لائحة الإنتظار الى أن يأتي دوري، وتُفتح في وجهي أبوابُ السفر.
<<<
أذكرُ ان ذلك النظام ظلَّ يعملُ سنوات، بدليل ان دائرة الهجرة اتصلتْ بالأهلِ كي تزفّ إليهم النبأ السعيدَ حين وصلني الدور...
وكنت قد كبرتُ، وأنهيتُ دراستي الجامعية، وتزوّجتُ، وصرتُ أماً لولدين، عندما أعلمتْني الوالدةُ بأني «نجحتُ في الكوتا». أي جاءَ دوري للهجرة.
<<<
صحيح ان الطموحَ حملني كي أغادرَ القرية الى المدينة في سنّ اليفاع، إلاّ ان طموحاً مختلفاً اقتلع إخوتي من حضن الوالدين، وألقى بهم في ذلك المكان المجهول: الغربة.
وكأنّما إرادة قدَرية أقوى من إرادة الأجيال، ظلَّتْ مسيطرة، وتتحكّم بمصائرهم مثلما فعلت بالأجيال السالفة.
<<<
تلك التجارب والمشاهد كانت تتراكم في الوعي واللاوعي عندما أقدمتُ على كتابة أول رواياتي عن الهجرة «طيور أيلول».