عندما ثقلت حركتها وصار بقاؤها بمفردها مقلقا للأبناء، فيه خطر عليها، استجابت لضغط ابنتها الكبرى، بدأت توزيع حاجاتها، ابنها الأوسط أخذ المقاعد وكنبة، أي غرفة الاستقبال، الأصغر نقل إلى بيته طقم الصيني والسجاد، فكت السرير والدولاب، طلبت تخزين غرفة النوم في مكانها، لابد من بقاء شيء ما في البيت، لم تذكر أنها ترفض نوم أي إنسان مكان المرحوم.
أتلقاها مرحبا، تبدو خجلة، تتحرك بحذر، كأنها ترغب في الاختفاء، أدرك وعورة مفارقة بيتها ومقرها فأظهر الود الجميل لتنتفي الغربة، لم تصحب معها إلا أشياء صغيرة، عقد من اللؤلؤ محلى بالألماس ورثته عن أمها، مروحتان قديمتان من ريش النعام، ملابسها وعدد كبير من الصور الفوتوغرافية، بعضها تغير لونها على البني بتأثير القدم، وضعتها على مقربة منها.
>>>
مجرية
قاعة استماع الموسيقى بالهرم، فرقة للرقص من إحدى بلاد البلقان، ثلاث مطربات يرتدين الزي التقليدي، إحداهن نحيلة، دقيقة الفم، كأنه توقيع، ممشوقة القوام، تغني، إنها أقوى الأصوات وأعمقها، كأنه لن يكف، يبدو ولا ينتهي، يخيل إليَّ أن عينيها التقتا عينيَّ، أنا مجرد مستمع بالصالة، في بلد أجنبي بالنسبة إليها، تغني بلغة لا أعرفها، لا أفهم ألفاظها، لكنني أستشعرها في مجملها، وهذا حالي مع الغناء الذي لا أقف على ألفاظه لجهلي بها.
هي لا تعرفني، أنا لا أعرفها، إنما أعرف صوتها، تغني وأصغي، تستنفر مني صورا وغموضا غير مدرك، قد ترحل إلى بلادها غدا أو بعد غد، سأبقى مقيما هنا، قد ترحل قبلي، وقد أمضي قبلها، هي هناك وأنا هنا، أنا هناك وهي هنا.
أسماء
يقول لي الأستاذ، من قام بتنسيق المؤتمر وترتيب أنشطته، إنه سيخصني بما لم يقدمه إلى غيري من الضيوف، إنه يعتز بزيارتي لكلية مارجريت هول التي استضافت الجلسات والأعضاء أيضا الذين أقاموا في أقسام الضيافة.
يتقدمني صامتا عبر الممرات التي أسلكها يوميا عند مغادرتي محل الإقامة إلى صالات الاجتماعات، ألمح مناضد المطعم الذي يقدم وجبات الإفطار، نتجاوزه، ننثني إلى طرقة طويلة مظللة، تنحني إلى ممر أكثر إعتاما، يتوقف عند منتصف الجدار، يزيح ستارة خفيفة، يرفع قبعته، يمسكها بيديه، لا أرتدي قبعة أو غطاء رأس، أقف مترقبا، أتأنى في حركتي، لا أسأل منتظرا أن يشرح لي، لا أريد الوقوع في خطأ ما، أو أن يبدر مني ما قد يفهم خطأ، خاصة أنه أخبرني بخصوصية المكان، بل إنه أقدس جزء في الكلية بعد مكان الصلاة.
أعتاد على العتمة، ألمح أسماء مكتوبة بترتيب، تنسيق دقيق، بعد إمعان أتبين أن كل اسم مقرون به تاريخ الميلاد والوفاة، أقواس مغلقة، عبارات على مسافة، مثل: «للذكرى الجميلة، للسيرة الطيبة، للعطاء بلا حدود»، أحاول تثبيت بعض الأسماء في ذاكراتي، خطر لي أن أخرج دفتري الصغير الذي أدون فيه ملاحظاتي، غير أن استغراقه حاشني، مرة أخرى أخشى ارتكاب خطأ ما، عندما هز رأسه أشار إليَّ بيده أن أتقدمه، أرخى الستارة، عندما بلغنا الممرات المألوفة قال إن من اطلعت على أسمائهم هم أجل الأساتذة الذين عرفتهم الكلية عبر القرون الماضية منذ تأسيسها، هذا من تقاليدها العريقة وأجلها، أو من مبديا التأثر، متسائلا عما تعنيه الأسماء بالنسبة لمن يجهل مسيرة أصحابها أو من قاموا به، هل يكفي نطق الاسم لبث الحياة المجهولة أو لاستعادة شيء مما كان، أو استثارة جوهر معنى لم أعرف إلامَ أشار؟