المريضة

كنا نجلس في صالون مربع، تؤثثه أرائك خشبية أنيقة، الحاجة أم الفضل تتوسط المكان، تكاد تستلقي على فرشة وثيرة وضعت فوق مساند المخمل الفاخرة التي تبطن تجويف الأرائك، ساقاها مغطيان بلحاف قطني دافئ، ورأسها ملفوف بشال ناعم، يتدلى طرفاه على صدرها الضخم الذي يرتفع وينخفض بوتيرة غير عادية كلما تكلمت..

كنا سبع أو ثماني نساء حولها، جئنا نعودها بعد خروجها من المستشفى إثر عملية جراحية ناجحة في القلب..

- طرقت أبواب السماء، وعدت، لم ير أحد ما رأيت، صدقنني،

«أرواحنا» تتأرجح على كف عفريت، ليرحمنا الله...

لم تتوقف عن ترديد هذه الكلمات، ابنتها الجالسة عند قدميها تترجاها بين الفينة والأخرى أن تصمت، وترتاح.. وأم الفضل لا تكف عن تقليب عينيها في وجوهنا وتحذيرنا مما ينتظرنا، طال الزمان أو قصر.

همست لأختي بأن علينا أن نستأذن، طلبت الابنة ألا نطيل الزيارة، عندما استقبلتنا.

«مفهوم» ردت أختي، ولكنها لم تحرك ساكنًا، شعرت بالضيق، إحدى النسوة تحكي معاناتها في المستشفى أثناء عملية ولادة خضعت لها.. أم الفضل تشرب كلماتها، وتقاطعها لتسرد بعضًا مما عاشته هي أيضًا في غرفة العمليات، ابنتها تلمس ظهر يدها المزرق بإبر التغذية، وتشير بعينيها إلى المرأة لتنهي كلامها.. «الدكتور أمر الوالدة بألا تتحدث كثيرًا».. أخبرتنا قبل أن تدخلنا إليها.. الضيفة لا تلقي بالاً لإيماءات البنت، وأختي تتابع الحديث بفضول.

التفتت ابنة أم الفضل إلى الخادمة التي سألتنا: «أتأمرن بشيء؟ هل أحضر المزيد من الشاي؟».

«لا.. أين اختفيت؟ أمي تريد أن ترتاح، أعيدي الصينية إلى المطبخ»..

توقفت الساردة عن الحديث، وحملقت كل النسوة في البنت، ورفعت أمها يدها إلى صدرها، وشهقت، واصفر وجهها.

«أمي! صرخت وانحنت عليها، وتبعتها النسوة وكل منهن تنصح:

- «تنفسي ببطء يا حاجة»..

«استلقي على الأريكة»..  -

«أميلي رأسك للوراء»..  -

- «خذي، اشربي بعض الماء»..

- «ابتعدن، دعنني أرشها ببعض هذا العطر»..

- «يجب فتح النافذة»..

تحلقن حولها، ونهضت أختي، وبقيت وحدي في مكاني.. الفتاة التي خدمتنا تقف غير بعيد عني، تتفرج مثلي على ما يجري، ولا تدري ماذا تفعل..

«بحق الله ابتعدن، ابتعدن، أنتن تخنقنها، أمي، أمي، قلت ابتعدن!» صرخت ابنتها بهستيريا، وتراجعت النسوة، وأتت أم الفضل وهي تصارع لتصيح بقدر ما استطاعت: «اخرسي.. لم أمت بعد لتكسري كلامي أمام ضيفاتي.. قومي من قربي.. قومي»...

نهضت الابنة وهي ترتجف.. عادت أغلب النسوة إلى أماكنهن، وبدأ لهاث المريضة يخف.

«حضّري المزيد من الشاي يا خدوج»... قالت للفتاة الواقفة قربي..

انسحبت ابنتها بصمت، وحملت خدوج الصينية، وهمست لأختي:

«يجب أن ننصرف.. كدنا نقتل المرأة»..

«من؟ نحن؟» ردت عليّ باستنكار.. «ابنتها هي التي كادت تودي بحياتها.. من تظن نفسها؟ تستقبلنا بوجوم، وتأمرنا بألا نتحدث، وتطردنا دون خجل.. الحاجة بحاجة لمن يلتف حولها ويسري عنها.. الدواء ليس دائمًا جراحة وعقاقير وأمصالاً ونومًا بالليل والنهار.. الصحبة الطيبة والحديث الشيق يصنع العجائب.. أنت تدرسين علم النفس، يجب أن تعلمي ذلك أكثر مني يا فالحة»..

زممت شفتي بقوة.. دخلت خدوج بالشاي، وواصلت النساء ثرثرتهن وكأن شيئًا لم يحدث، أنهت صاحبة الولادة القيصرية قصتها، وتحدثت جارتها عن عملية استئصال المرارة التي خضعت لها إحدى قريباتها، وروت أخرى حكاية سيدة أزالت ورمًا من دماغها، وبدت أم الفضل في حال أفضل مما كانت عليه منذ دقائق.

تملكني الحرج وأنا ألمح ابنتها تمشي وتجيء في الممر، وترمقنا بنظرات نارية.

لم أكن أعرفها، لا هي ولا أمها.. أردت أن أرضي أختي عندما اتصلت تطلب مني أن أرافقها لزيارة إحدى قريبات زوجها.

 «أنت ضليعة في طب النفس».. قالت لي: «ستعرفين كيف تخففين عنها، وعن أسرتها».

ابتسمت رغمًا عني.. والتقت عيناي بعيني الابنة الحانقة.. ووددت أن تنفتح الأرض وتبلعني.. لم يكن من الصعب عليّ تخيل ما تشعر به وهي تسمع النساء يتحدثن في وقت واحد، وأمها تجاهد لتشاركهن النقاش وصدرها المجروح يهتز ويرتجف.