فضائح وصحافة صفراء

متثاقلة الخطوات وحانقة عليه، وأمام عيني يرقص ألف عفريت غضبًا، سحبت جسدي بعيدًا عن مكتبه في اتجاه مكتبي، وهمهمت سرًّا: «ما لهذا الحظ العاثر في هذا الصباح، هل اليوم يحمل تاريخ الثالث عشر ليبدأ هكذا بشؤمه؟»، استقبلتني زميلتي بابتسامة باهتة في الممر، وسألت عن مضض: «ماذا هناك؟»، «سيادته يطالبني بفضيحة جديدة لينتعش بيع الجريدة»، لم تُعقب على كلامي ولو بكلمة، كل ما استطاعت فعله أنها قطبت جبينها، ولوت شفتيها، وعضت عليهما بهلع، وانصرفت كالهاربة لا تلوي على شيء، فسياسة الرعب متفشية هنا منذ سنوات، وللجدران والنوافذ عيون وآذان، حتى أنفاسك يراقبونها، وأصحاب جمع الحسنات ما أكثرهم، والفئران الفاسدة منتشرة تعربد في أي اتجاه نظرت، فالصمت أو الطرد سيكون حليفك، أنا الوحيدة هنا التي لا يمكن طردها من العمل، ليس لأنني شقيقة زوجة رئيس التحرير، هذا الذي لا يفرق الألف من عصا الراعي، أو لأنني تربطني به علاقة قرابة من بعيد، بل لأن الدنيا مصالح، فلا تستغرب يومًا أن يكون رئيسك ودودًا إليك، ليس لزرقة بحر في عينيك، أو لحسن خلق مرسوم على وجهك، بل إما لأنك منافق كبير له، أو لديه مصلحة تخدم مؤسسته لديك، وهذا الحال الأخير منطبق عليَّ، فأنا الوحيدة التي كانت تدخل من أجل عيون الجريدة في كل حلقات الدبكة والأعراس، وتأتي لها بفضيحة، بل والقادرة المتميزة على نشر غسيل نجوم المجتمع، والبارعة في جلب الطالح من الأخبار، والتي يربعونها على الصفحات الأولى بالبنط العريض، لتسر وتجذب الناظرين، وتنعش الصندوق بالربح الوفير، وحولت الجريدة بفضل «مجهوداتي» من جريدة لها قيم ومبادئ إلى جريدة تصطاد في الماء العكر، فالركاكة في اللغة، إلى جانب أن أتخطى حدود الأخلاق ميزة حسنة، أصبحت تحظى بها أقلامنا نحن المحررين، وكلما كان مداد قلمنا وسخًا عشقنا رئيس التحرير أكثر، وأصبحنا من المقربين، فصحافة الشارع أو الصحافة الصفراء، أصبحت أمرًا واقعًا رغمًا عن أنف النبلاء، وكلما فضحت المستور، ونبشت أعراض البارزين، ازداد إقبال القراء عليك، وتضمن بالتالي مكافأتك وشهرتك.. لقد أخذتكم بعيدًا عن مشكلتي الرئيسية، وهذه هي طبيعة المرأة، تفكر بألف شيء في دقيقة واحدة.. ماذا كنت أقول؟! نعم.. سيادة رئيس التحرير طالبني اليوم للمرة المليون بفضيحة، وقررت الآن، وفي غضون ثوانٍ، أن أختلق له واحدة، فالكذب في مثل هذه الأحوال مباح، وبالتالي الفضيحة حلال لنسترزق ولو ليوم واحد جيدًا، ولا تعتقدوا أن ابتكار فضيحة سهل ممتنع، بل يتطلب مني كتابة سيناريو كامل، وتجنيد أشخاص يمتلكون أنوفًا جيدة لشم الأخبار، لكن من أين سأبدأ، والساحة أصبحت خالية من كل ما يثير؟! فهيفاء استقرت في حياتها، ونانسي تزوجت ورزقت بطفلة، وخلافات بعض الفنانين مع عائلاتهم قد انتهت، والصبوحة السيدة الجميلة، أصبحت صراحتها معتادة... حتى غضب نضال الأحمدية لم يعد يلسعنا من بعيد، ويفتح شهيتنا لنفرقع الحقائق، بعدما هدأت مسالمة وتشرع في كتابة كتابها، آه، لو تطلعني ولو على خاطرة من خواطر كتابها، لعل وعسى أجد ثغرة أنفذ منها وأفجّر فضيحة.

ووقعت عليه أخيرًا، موضوع قد يثير الانتباه ولو ليوم، ولا بأس بذلك مؤقتًا، سأهدد بتسميم زوجي إذا لم يجدوا لي حلا، وسيكون هكذا عنواني: «صحفية تهدد بتسميم زوجها إذا لم يجدوا لها حلا!».. وفعلاً، وافق الجميع، وعلى رأسهم رئيس التحرير، الذي لم يعطني الوقت الكافي لمناقشة الاقتراح، بل اكتفى فقط بهز رأسه موافقًا وغادر المؤسسة لجهة لا نعلمها.. وصدرت في اليوم التالي الجريدة، ونفدت من الأسواق الأعداد، وتنفست الصعداء، فأخيرًا استطعنا من جديد أن نطفو على سطح الكرة الأرضية، ولم تتوقف رنات الهواتف، الكل يسأل ويمحص الحقائق، طبعًا كان عليَّ أن أختفي من المشهد، وذهبت بعيدًا خارج المدينة، لأكتب ما ينشر غدًا من كذبة جديدة مبتكرة تفنّد مشروع التسمم الذي هددت به، ولم تصل الظهيرة حتى هاتفني رئيس التحرير، وصوته يتطاير شررًا مهددًا: «لا تريني وجهك بعد اليوم، لقد أقمت الدنيا علينا، كل الجمعيات الحقوقية تقف بالباب، والشرطة أعلنت حالة طوارئ، وزوجك تحت المراقبة الصارمة خوفًا على حياته منك، أنت مهددة بتحويلك إلى المحاكمة؛ لأنك أثرت الشغب، وكلفت الدولة ميزانية لحالة الطوارئ هذه..»، «ألم تطالبني أنت نفسك بفضيحة؟!»، «فضيحة في حدود المعقول، وليس بمشروع جريمة قتل»، «ألا يمكن أن تكون الفضيحة أصلاً مشروعًا لجريمة قتل؟».. وتبادلنا الألسن النابية، كل واحد منا يسدد التهم للآخر، إلى أن مللت وأقفلت الهاتف في وجهه، ومن يومها لا صحافة صفراء ولا خضراء، ولا فضيحة أثقل بها مرتبي.. لكن، رغم ذلك لا أنكر أنني أملك نفسًا أمَّارة بالسوء، تناديني يوميًّا بتأسيس جريدة، سأطلق عليها اسم بـ «المكشوف الصريح»، فخبرتي في نشر غسيل الناس لا يستهان بها.