كانت تقول لي «لا أطلب شيئًا، أريد فقط.. أن أكتب شعرًا»، وكنت أبتسم بتعالٍ، وأهزّ رأسي، ولا أردّ عليها، تكتب؟ هي؟! نظرتي الساخرة تُربكها، أرى ذلك في ارتجاف يديها، وحمرة خديها، وانسدال رمشيْها بسرعة فائقة.
عفاف، ابنة الجيران، الثالثة والعشرون، نحافة غير طبيعية، جمال متواضع، طفلان في سن التمدرس، زوج غائب، ودبلوم مهني في الخياطة.
«هلّا ساعدتني ؟ اقرئي فقط هذه، وأخبريني... رأيك».
لم تتجاوز محادثاتنا بضع دقائق، رغم أننا لسنا غريبتين على بعضنا،
ولدنا في نفس العام، ودرسنا أغلب مراحل الابتدائي والإعدادي معًا، كانت دائمًا الأولى، وكنت أعاني... بصمت، ويوم أخبرتني أن والدها وافق على أن يزوِّجها لشخص أتى من غرب البلاد، نطّ قلبي من الفرحة، وإن لم أبدِ شيئًا.
«والمدرسة ؟».
«سيقعدني منها، سأموت...».
لم تفعل.
صِرت الأولى في المدرسة، وأصبحت هي زوجة، وأمًّا، ومعيلة أسرة، تركها الزوج الذي كان يطمع في ورشة القصب الصغيرة التي يصرف منها والدها على العائلة، واضطرت لتتعلم صنعة تحفظ مما تجنيه منها ماء وجهها، وكنت أعلم كلَّ ذلك، وأتشفى، وأحتقر نفسي.
حصلت على منحة جامعية، وتخصصت في دراسة اللغات.
«لماذا تصرّين ؟» قلت لها «للشعر قواعد يجب أن تدرس، الأمر ليس كتفصيل ثياب تُباع بالجملة».
كنت جارحة، وشعرت بألمها دون أن أراه، وتركتها تذهب.
«أعرف أنني أزعجك، لكنني لا أدري منْ أقصد غيرك، أنت درست وعندك إلمام باللغة... باللغات» قالت لي غير ما مرة «لو لم أترك الدراسة لاخترت نفس التخصص.. ولكتبت الشعر بعدة لغات».
«أنت تهذين...» عاجلتها بحدة.
لو لم تتزوج... لا أجرؤ على أن أفكر فيما كان سيحدث، ما كنت لأحظى بما أحظى به الآن، لا فرصة لديَّ أمامها، كانت هي منْ سيتألق، ويتميز، ويحصل على المنح والشهرة.
كانت موهوبة.
ظهر زوجها عدة مرات، جاء ليرى ولديه ويُسمِّم عيشتها ويجمع ما ادخرته ويختفي من جديد.
«أنتِ حمقاء»، وبّختها وإحساس التشفي لا يفارقني، «هو منْ يجب أن يصرف عليك، ربما تستحقين عيشتك».
«هدد بأن يأخذ الصغيرين...».
«حمقاء».
رددت بيني وبين نفسي وذاكرتي العنيدة تستعرض إكليل الكلمات التي نظمها حسها الرقيق.
تريد أن تكتب شعرًا، هي تنثر دررًا، بعض من عباراتها حفظته دون أن أدري، كلام كالهمس، يلمس القلب ويشعشع في الأعماق كنسمة الربيع التي تلطف خدك ولا تجرح بشرتك، دفق من الحزن والحيرة والأمل والرغبة في الحياة، فيض من المشاعر الحارقة المتناقضة التي تذوب في بعضها، وتنطلق كخيط الضوء الساطع لتنير درب الروح المعذبة التي تتشبث بها، حسٌّ عالٍ وشاعرية متقدة وتعبير بالغ البساطة والجمال.
كلام تمنيت لو كنت أنا منْ نظمته.
لم أقل لها شيئًا، ظللت أحدجها بشفقة، وأنتظر أن تستسلم وتلتفت لولديها وماكينة خياطتها ولقمة عيشها.
وجدت وظيفة مرموقة في الجامعة، وانتقلت إلى بيت لائق، في حي حديث، ولم أعد أراها.
شغلتني دراساتي العليا، وأبحاثي، ولقاءاتي، والمجد الأكاديمي الذي بدأ يلوح لي في الأفق، وكان ذهولي كبيرًا عندما قرأت بعض نصوصها في الملحق الثقافي لجريدة واسعة الانتشار، شاعرة الأحاسيس المتدفقة، القلم العصامي الجديد، النفس الأنثوي المتوهج، ألقاب كثيرة، وديوان محلّ كل ثناء، صُعقت، وجريت إلى أول مكتبة، كلام آسر يضج صدقًا وقوة وانفعالاً، عادت بي الأيام للوراء، حين كنت ألهث لألحق بها في المدرسة، وتظل في المقدمة، وأتبعها، وقلبي يغلي.
وتبقى محط الأنظار، كما الآن، وأنا... منْ يعرفني غير محيطي الأكاديمي الضيق؟ ما جدوى تعبي كل هذه السنين؟
قلَّبت ديوانها بحقد، وتوقفت عند صفحة الإهداء، اسمي يتصدر لائحة الأشخاص الذين «تدين لهم بالفضل الكبير»، اسمي مكتوب بخط أسود عريض، ومحاط بعبارات الشكر والحب والامتنان.
لم أُرد أن أبكي، لكنني فعلت.