إحتفاظ الطفل بأسرار يرفض البوح بها والخوض في تفاصيلها، تصرّف قد يثير حيرة الوالدين وسؤالهما عن الأحداث والمواقف التي يصنّفها الطفل في هذه الخانة، والأسباب التي تدفعه إلى التصرّف على هذا النحو.
"سيدتي" حملت هذه الأسئلة إلى مستشارة العلاقات الأسرية الدكتورة رشا السيد
إن الميل لإخفاء أسرار صغيرة تصرّف يسيطر على غالبية الأطفال، ويعتبر ظاهرة صحيّة إذ يشير إلى أنّ الشعور بالإستقلالية والثقة بالنفس ينمو بشكل طبيعي لدى الطفل، وكأنه بذا يوجّه رسالة لمن حوله مفادها أنه يمتلك حيّزاً خاصاً يمنع الإقتراب منه.
مراحل عمرية
لدى الحديث عن السرّ عند الطفل، لا بدّ من التطرّق إلى مراحل تكوّنه:
> حتى سنّ العامين: يعتقد الطفل أنّ كل ما يدور في ذهنه ويقوم به، يكون والداه على علم به، وبالتالي لا مجال للحديث عن الأسرار خلال هذه المرحلة.
> في سنّ الثالثة: يدرك ما يحوطه ويتعلّم أنّ لديه أشياءه الخاصّة، ويكتشف أنّ ما يدور في ذهنه لا يعلمه إلا هو، فيخفي شيئاً في مكان ما ثم يعود لاحقاً ليجده في المخبأ نفسه، فيشعر بالسعادة ويستمتع باكتشافه القدرة على القيام بأشياء خفيّة صغيرة. ولكن أسراره تكون عادةً أشياء ملموسة كلعبة أو قصاصة ورق.
> إبتداءً من سن الأربع والخمس سنوات: يبلغ الطفل مرحلة التمييز بين ما هو مسموح به وما هو ممنوع عليه القيام به، فيتّجه سرّه وتكتّمه نحو تفادي العقاب.
> بعد بلوغه سن الثماني سنوات: يصبح الإدراك في تزايد مستمر، فيتيقّن بأنّ هنالك أشياء تخصّه يمكنه إخفاؤها من منطلق أنّ والديه ليسا على علم بها، كإخفاء درجاته الضعيفة وتقليده لتوقيع الأب عليها، في هذه اللحظة بالذات يكون مفهوم السر قد اكتمل في عقل الطفل!
> بعد سن العاشرة: يبدأ في تكوين علاقات صداقة يكتسب منها أشياء لم يتعلّمها في محيطه الأسري. ولا يتعلّم في هذه المرحلة كيف يخفي أسراره فحسب، بل مشاعره أيضاً.
وبشكل عام، إنّ مفهوم السر والأشياء التي يمكن اعتبارها من ضمن الأسرار تختلف من طفل إلى آخر، وتحكمها عوامل عدّة تحتلّ رأسها التنشئة الإجتماعية والتربية والأخلاق.
مسؤولية الأسرة
يبدأ الطفل في تكوين عالم طفولي سرّي خاص به عندما يدرك أنه قادر على القيام بتصرّفات بعيدة عن رقابة الآخرين، ومع تعرّضه إلى العديد من المواقف والأحداث لا يجد من يثق فيه داخل الأسرة ليبوح له بتفاصيلها بدون خوف! ومع مرور الوقت، يتقن فنون الإخفاء والسريّة، وهو الأمر الذي يجب أن يستدعي اهتمام الوالدين قبل أن يتحوّل السر إلى كذب قد
لا تحمد عقباه!
وتتمثّل أبرز الأسباب التي تدفع الطفل إلى السريّة:
> إعتقاد بعض الآباء والأمهات أنّ من يلتزم الصمت هو «الطفل المهذّب»، وأنّ تحدّث الطفل مع والديه في تفاصيل أموره الخاصّة ثرثرة لا داعي لها وإبداء رأيه خروج عن قواعد التربية السليمة، ما يقمع ملكة الكلام لديه. وقد ثبت أنّ تعنيف الطفل باستمرار نتيجة كلامه وحديثه يجعله يكتم أسراره ويرفض البوح بها لوالديه.
> إن الطفل الذي ينشأ في أسرة تحرص بشدّة على أن يكون كل شيء يقوله ويفعله صحيحاً ودقيقاً، وتحوطه بكل الوسائل التي تجعله أكثر تأدّباً، يتعسّر عليه الوقوع في الخطأ والتحدّث عنه، فيعمد إلى إخفاء أي تصرّف يغضب والديه.
> عدم إدراك الكبار كيف يتعاملون مع مشاعر الطفل الرقيقة في مقتبل حياته، فيقارنونه بأقرانه، ويذكرون مساوئه وعيوبه بشكل دائم ويعايرونه بنقاط ضعفه سواء في البيت أو في المدرسة، ممّا يؤثّر على بناء شخصيته ويولّد لديه الإحساس بالقلق والخوف بل الحقد والكراهية وعدم الإحساس بالأمان والأمن الداخلي، الأمر الذي يؤدّي إلى تشكيل طفل خائف ذي شخصية مهزوزة، يحتفظ بأسراره حتى لا يلقى المزيد من التوبيخ.
وتشير الدراسات في هذا المجال إلى أنّ الأسر التي يكون فيها الكبار متسلّطين يزيد فيها ميل الأبناء نحو السريّة، وأن الوالدين اللذين يفرضان سيطرتهما بشكل صارم يخفي أطفالهما أسراراً أكثر خطورة كنوع من الإحتجاج على السيطرة المفرطة، على غرار السرقة والتدخين. وتبدأ هذه التصرّفات في السابعة أو في الثامنة!
سرّه الخاص
أشارت الأكاديمية الأميركية للطب النفسي للأطفال، كما نشر في مواقع متخصّصة عدّة في علم الأطفال، إلى أنّ نصف الأطفال في سن المدرسة تعرّضوا لنوع من الإيذاء من قبل زملائهم أثناء سنوات دراستهم المختلفة. وتكمن الخطورة في تأثير ما تعرّض له الطفل من العنف والمضايقة والإيذاء على المدى الطويل، حيث من الممكن أن يصاب بالقلق وعدم الثقة بالنفس، وربما يصل الأمر إلى الإكتئاب، ويضطرّ الطفل إلى إخفاء ذلك واعتبار الأمر سريّاً لا يمكن أن يطّلع عليه أبواه.
لذا، إن علاقته بأقرانه قد تكون مليئة بالأسرار، خصوصاً في حالة الإيذاء الذي يشمل أنواعاً ثلاثة، هي:
1 الإيذاء البدني: يشمل الضرب والركل واللكم وشدّ الشعر، بالإضافة إلى تدمير ممتلكات الطفل.
2 الإيذاء اللفظي: يشمل الشتائم والسخرية والإغاظة والألفاظ العنصرية، فضلاً عن الإشاعات التي تسيء إلى الطفل.
3 الإيذاء الإلكتروني: هذا النوع ينمو في المدارس نتيجة انتشار التكنولوجيا، ويشمل التحرّش عبر رسائل البريد الإلكتروني أو مواقع الدردشة أو تدمير موقع الطفل على الإنترنت أو صفحته.
وعندما يتعرّض الطفل لهذه الأنواع من المضايقات لا يبوح بها للأهل نهائياً، ولكن هناك أعراض يمكن ملاحظتها تكون بمنزلة تحذير لأولياء الأمور بأنّ طفلهم تعرّض للإيذاء، أبرزها:
> تلف الملابس أو فقدان بعض الأغراض المدرسية والشخصية أو تدميرها.
> الكدمات والخدوش والإصابات التي تكون على جسد الطفل ولا يقوم بتفسيرها لك.
> الخوف أو التردّد من الذهاب إلى المدرسة، وقد يصل الأمر إلى البكاء عند الذهاب إليها.
> عدم ارتباط الطفل بصداقات مع زملاء المدرسة، فلا يدعوهم لزيارته ولا يتّصل بهم.
> ضعف العلامات التي يحصل عليها في المواد الدراسية.
> يعاني من الأرق وصعوبة النوم وقد تنتابه بعض الكوابيس.
> عدم الرغبة في تناول الطعام.
> الشكوى المستمرّة من بعض الأعراض الجسدية، كالصداع وآلام المعدة.
وتنصح "الأكاديمية" الأهل أن يعطوا المدرسة الوقت الكافي كي تدرس المشكلة من كل جوانبها، وتتعامل معها بهدوء ورويّة. وإذا ثبت الأمر، فإنّه يجدر بالإدارة أن تأخذ تعهّداً من الطفل المذنب، وبحضور أهله بعدم تكرار الأمر. ويمكن أن تحرمه من الرحلات المدرسية أو النشاطات الإضافية أو تمنعه من الخروج من الصف ما بين الدروس. واذا كرّر العدوان والسخرية والإضطهاد، فإنّ المدرسة ربما تعمد إلى طرده بشكل مؤقت أو دائم.
ويجدر بالأبوين عدم اللجوء إلى الإنتقام أو حثّ الطفل على أخذ حقّه بيده، لأنّ هذا التصرّف سيوقعه في مشكلات أكثر تعقيداً، مع تفادي وصفه "الجبان" و"المتخاذل"، بل ندخل الطمأنينة إلى قلبه ونؤكّد له أنّ من يضطهده ليس شجاعاً وبطلاً، وإنما فاشل وسيّئ الأخلاق!
خطوات مفيدة
تقدّم الدكتورة رشا السيد هذه الخطوات المفيدة للأهل والآيلة إلى الخروج بالطفل من حالة التكتّم، إذ تؤكّد على أهمية:
> تخصيص وقت كافٍ لإيجاد نوع من الرابط أو الإتصال بينهما وبين أبنائهما وسط جو عائلي دافئ خالٍ من التوتر، يمكن أن يتحدّث فيه الطفل بحريّة وتلقائية، بدون خوف من العقاب.
> تفهّم نفسيّة الطفل ومراحل نموّه وشخصيته والتي تشهد تطوّرات واضحة في التعبير عن أفكاره، فلا يتوقّف عن الأسئلة والثرثرة عن كل شيء يحوطه. ويجدر أن ينصتا إليه ويجيبا عن أسئلته حتى يشعر بأهميتها وتتكوّن شخصيته على أساس قدرته على التخاطب، ولا ينبغي إشعاره بعدم أهمية كلامه.
> إشباع حاجات الطفل العاطفية من الحب والأمان والإهتمام، مع الحفاظ على التوازن في العلاقة مع الطفل. وفي هذا الإطار، يمكن رسم حدود وحواجز من دون أن يكون الهدف منها كسر إرادة صاحب الأسرار. ويخطئ الوالدان عندما يحاولان عبر تجسّسهما هدم العالم السرّي الذي يريده الطفل لنفسه.
> السيطرة على الغضب عند ارتكاب الطفل الخطأ، تفادياً لزرع الخوف في نفسه. فإذا كان يستحقّ العقاب، لا بدّ أن يكون العقاب هادفاًًً وليس مهيناً للطفل أو مسيئاً لكرامته أو مؤلماً له! فعلى سبيل المثال، إذا كسر كوباً يمكن شراء كوب بديل من مصروفه، وإذا كان الخطأ لا يستحقّ العقاب فلا بدّ من شرح الخطأ للطفل وكيفية عدم الوقوع فيه مرّة أخرى.
> من الهام تشجيع الطفل على الإعتراف بخطئه والإستماع إليه ومنحه الوقت ليفسّر سبب خطئه.
> إحذري إلزام طفلك على التحدّث الذي يشعره بأنه في موقف المتهم الذي يجلس على كرسي الإعتراف وأنك المحقّق الذي يستجوبه! وكوني على قناعة بأنّ لطفلك قدرات محدودة وأنه ما يزال في مرحلة التعلّم، لذا يحقّ له ارتكاب بعض الأخطاء.