في بؤونة «يونيه-حزيران» ينصب شعاع الشمس عموديًّا على رأس سكان القاهرة، لكن ما رأوه –ذات بؤونة- لم يكن هلوَسات ضربة شمس.
وفي بؤونة تتدلى ألسنة الكلاب من العطش، ويسير الفقراء في بيوتهم عرايا إلا مما يستر العورة، حيثُ لا تكييف ولا تصييف ولا نافذة بحرية.
في بؤونة يبدأ الأغنياء النزوح من القاهرة، يستقرون في لل وشاليهات وقصور في الساحل الشمالي غرب الإسكندرية، وذلك بمجرد فراغ أولادهم من أداء الامتحانات، وهم غالبا ما ينجحون، لأن الجامعات الخاصة غالبا ما تحرص على راحة زبائنها.
في بؤونة تتوقف المسارح؛ حتى لا يؤدي الممثلون أمام المقاعد الخالية «وهي مقاعد بليدة غير متجاوبة ونادرا ما تضحك»، فحالة الطوارئ المنزلية والاجتماعية «الثانوية العامة التي أصبحت سنتين»، تجعل من فكرة ارتياد المسرح من هلوسات الشمس المنصبة عموديًّا على رأس القاهرة، ثم تعود المسارح الرخيصة على أمل جرِّ رجل الزبون الذي لا يملك حتى رفاهية التفكير في أي تصييفة.
وأنا في بؤونة أحزن، للمناسبة القديمة، وأحمِّلها مسؤولية كل ما لا يعجبني من مشاهد الليل والنهار: في القاهرة.. في غزة.. في بيروت.. بغداد.. طنجة.
في بؤونة أتذكر أيامًا لم يكن عندنا تكييف ولا حتى مروحة، حين كانت الثانية ترفا والأولى اختراعا غامضا لم نره، ولم نجربه وكنا نتقلب، ونِتْقلِي من الحر بأقلِّ الثياب، لكنا كنا نعتبر ذلك شيئا طبيعيًّا، ومع العلم لم نكن فقراء، لكن العادات الاستهلاكية في الستينيات وأوائل السبعينيات بالنسبة للطبقة المتوسطة، وكانت نصف المجتمع، لم تكن قد بدأت رحلة الانتفاخ وتحمل المشاق الباهظة من أجل الحصول على ترف لم تكن تحلم به، وبالتالي لم تكن تحتاجه من قبل.
وفي بؤونة جرَّني التفكير في التكييف والمروحة، إلى تذكُّر العادات الاجتماعية المتقشفة، حيثُ كان الجميع يأكلون ما تطبخه الأم، ولا يطلبون بالموبايل الوجبات الجاهزة إنتاج سلاسل مطاعم أميركية عالمية أو غيرها مما تنتشر يوميا بمعدل سرطاني في القاهرة والمحافظات، وعند جيراننا وأشقائنا العرب.
حين كان حفل الزفاف يتم فوق سطح البيت، وفسحة الولد تأجير عجلة «دراجة» من «عجلاتي» الشارع، وكان بحر الإسكندرية يستقبل بالمجان الشعب كله، ولا تجد بالإسكندرية شبرا خاليا طوال أغسطس «آب- أبيب»، وهو زحف يبدأ في بؤونة ويتصاعد حتى ذروة الصيف.
في بؤونة أتذكر بدء سريان النار، وانصبابها المزدوج –عموديًّا- من الشمس والأسفلت، وانشحان بطارية القلب به، وصهد الجسد وغليان المخ والأطياف الملونة، والأشكال العجيبة التي كنت أراها، لكنني لم أكن حقا أراها.
بؤونة «يونيه-حزيران» حارٌّ عند العرب، أواخر ربيع في بلاد الشمال، لكن يميزه عن غيره من أشهر الصيف، بناء على تجربتي الشخصية، أن حرَّه نظيف أي جاف خالٍ من الرطوبة القاتلة في يوليه وأغسطس.
هذا بؤونة القاهري، بأبعاده الحزينة والعامرة بالذكريات الوطنية والشخصية، هذه «بؤونتي» الخاصة والقومية، فكيف يونيه- حزيران عندك؟ هل ما عندك يشبه ما عندي؟ لا أظن.. قد يتشابه في بعض النقاط، لكن لكل إنسان «يونياه» الخاص، وصيفه الخاص، ولكل مصطافة بحرها، الذي يخصها هي وحدها، وإنْ عام فيه الكل، بل إن لكِ يا عزيزتي، كما هو لي، عالمك الخاص: بسمائه وأرضه وبشره وحرّه وبرده.
لكن لسنا جميعا نعبر عن عالمنا الخاص هذا.. فهل هي نعمة؟ أم هي نقمة؟ أقصد أن نعبر عما بداخلنا.. هناك من يقول، ربما عن حق، إنها نعمة كبرى، وأغلب الظن هذا صحيح، لكن البوح وإن كان يريح فهو أحيانا يرهق.
أستأذنك إذن في أن أضع القلم.