لطالما استغلت السياسة الفن، وحقّقت عبره ما لم تستطع تحقيقه القوات المسلحة والإستخبارات العسكرية والمدنية من خروقات في صفوف الأعداء المفترضين. والحديث اليوم مستمر عن مايكل جاكسون الذي تذكرته وسائل الإعلام بعد غياب عام وعرضت سيلاً من أغنياته التي أحبها المقربون من الولايات المتحدة وعدد كبير من شعوب الدول المعادية لأميركا... أميركا، رمز القوة ورأس المال العالمي والإستعماري، بمفهوم الدول التي تحارب هذه المشاريع بالخطابة أحياناً، أو في بعض الأفلام السينمائية، وأحياناً في أغنية على طريقة الشاعر أحمد فؤاد نجم والراحل الشيخ إمام الذي شجب السياسة الأميركية بأغنيته (شرفت يا نكسون بابا يا بتاع الوترغيت) الفضيحة الشهيرة التي هزت العالم حينها في العام 1974.
توالت الأعمال الفنية المعادية والمباشرة لتشويه صورة أميركا في بلاد عدة، إلا أن أياً من هذه الأعمال لم يكن لها وقع وصخب كأعمال الراحل جاكسون، وهذه حقيقة لا نختلف عليها. حصدت أغنياته أوسع انتشار في العالم في القرن الماضي، وتربع على عرش البوب ميوزك لمدة طويلة رغم تعرضه لانتكاسات ذات طابع أخلاقي، وساعد مزاجه الغريب على تصديق بعض ما نشر عنه في الصحافة.
عام 1984 ذهبت الى موسكو للإلتحاق بجامعة روسية، وعلّمني من سبقني الى تلك البلاد، ماهية المتطلبات التي يجب علي أن أحملها معي الى موسكو لكسب ود الروس الطلاب على الأقل (الجينز والسجائر وحبات العلكة وأشياء من هذا القبيل..) وفاتهم أن يخبروني عن ضرورة حمل شريط لأغاني مايكل جاكسون. وبالصدفة كنت من المعجبين بهذا الفنان آنذاك وما زلت، وأعتبره من الأساطير التي لن تتكرر كثيراً في عالم الفن.
ما أن وصلت الى موسكو حتى أرهبني دخول الشرطة إلى الطائرة لتفحصنا ونحن على متنها. وتملكتني الخشية من النظر الى أحدهم بشكل مباشر وهم في غاية الجدية، يتفحصون أوراقنا الثبوتية. ثم سمحوا بنزولنا من الطائرة. وكان الثلج يرصّع كل شيء في شوارع موسكو، والطرقات خالية تماماً في الليل، إلا من بعض السيارات المنطلقة بحالة جدية لا تشبه أي صورة سابقة أحفظها في ذاكرتي من قبل.
وصلنا السكن الخاص بالطلاب وكانت المعاناة كبيرة من ناحية التواصل مع الآخرين، فعزلت نفسي كي لا أُحرج بالأسئلة، وكانت آلة التسجيل الصغيرة (ووك مان) رفيقتي، أسمع من خلالها بعض الأغاني وغالبيتها لفيروز وآخرين.. وشريط لمايكل جاكسون. صادف مرور إحدى طالبات المعهد ولهذه الزميلة مزاج غريب، فيوماً تلقي التحية بحرارة، وفي اليوم التالي تتجاهلني كلياً، ولكن حاجتي لها كانت ملحة، فهي الوحيدة التي كانت تتكلم قليلاً من الفرنسية والإنكليزية، وهذا ما كان متوفراً معي من لغات أحاول قدر المستطاع أن أعبّر عن نفسي من خلالها... شعرت بأنها تراقبني وأنا غارق في سماع ما أسمع، اقتربت وأشارت الي بيدها: «ماذا تسمع»؟ أزلت السمّاعات من أذني وأعطيتها لها.. ما أن وضعتها في أذنيها حتى صرخت وارتفعت عن الأرض واطلقت وابلاً من الكلمات الروسية، واقترب مني كل من هبّ ودبّ، وأصابتني الحيرة، فلم أعرف ما إذا كنت قد ارتكبت خطأ بسماع مايكل جاكسون، أو أني أشعلت مظاهرة مؤيدة (للإمبريالية) دون أن أدري. نالت سمّاعة مسجلتي الصغيرة رضا كل من تقرّب مني آنذاك، ورقص بعضهم وأصبحت صديقاً لمعظمهم، وأصبح شريطي (شريط جاكسون) مصدر إعجاب لكل الطلاب... ولم يطل الزمان وسقط الإتحاد السوفياتي وانفصلت دويلاته وانهار الفكر الشيوعي الحاكم وعاد كل شيء إلى طبعه وخرج من التطبيع.
لعلها أغنيات جاكسون التي لم تكن في حسابات (الكرملن)، ولم تناقش في الإجتماع الأسبوعي للحزب الشيوعي الروسي، هي التي لعبت دوراً بارزاً في هذا التوجه. فقد صدرت معلومات سرية منذ فترة تقول إن أعضاء الحزب كانوا على اطلاع دائم عمّا يصدر من أغاني بوب في أميركا. وكانوا معجبين بها، فلم يأخذوا حذرهم من الأغنية ولا من ذاك الصبي الذي «تمشى على القمر دون أن يصعد اليه». غنى للكثير من المواقف الإنسانية، أحبّه الناس وآخرون كانوا على حياد، يراقبون هذا الفتى الأسود والأبيض، المجنون والموهوب، هذا الخارج من قلب معاناة العائلة الأميركية المهاجرة، كره الماضي وسبق الحاضر، خدم الحلم الأميركي ونشر ثقافته في أنحاء العالم، عرفه الجاهل وعرفه المثقف وخاف منه أصحــاب المواهــــــــب المحـــدودة... نشر فكرة رقصه بين الأجيال، هدّد الأنظمة دون أن يعرف، كتب كلمات أغنيــتــه الشهيرة (غريب في موسكو) حين زارها وهو حقيقة لم يكن غريباً. لم يدخل عن طريق السفارة ولا عن طريق الانترنت ولا الفيسبوك بل دخل بمزاج الناس وحرّك أيديهم وأرجلهم ودفعهم بلهاث نبراته المنبعثة من الصدر الرقيق الذي لم يتحمل كل هذه الموهبة فهوى.
الكتابة عن هذا الفنان لن تزيد في رصيده ولن تضيف الى تاريخه، لم يشتم يوماً نظاماً بعينه، ولم يسمّ شخصاً بإسمه، مضى الى نهايته تاركاً لنا أن نفسر ما بين سطور أغنياته... هل كان سلاحاً استراتيجياً أم هو مجرد صدفة أمعنت في تحريك المياه الراكدة خلف الستار الحديدي؟