لم يكن مثل سابقيه، قابلهم بابتسامة عريضة، صافحهم واحدًا واحدًا، مازحهم بخفة دم لم يعتادوا عليها، ودعاهم لمشاركته شاي الفسحة الصباحية، هو رئيس صندوق الموارد البشرية الجديد، شاب مشرق الوجه، يوزع ابتساماته بسخاء، ويبدو مستعدًا لمناقشة أي موضوع مع أي كان، وهم موظفوه الستة العاملون في غرفتين ملحقتين بمكتبه، نزهة قالت: إنه واحد من عديمي الكفاءة الذين يخربون البلد، ولد وفي فمه ملعقة من فضة، لم يكن عليه أن يكد ولا أن يتعب ليحصل على منصب رفيع، ياسين سخر من حركاته الصبيانية التي حاول من خلالها أن يتقرب منهم، حبيب تأفف من غزو سلوكيات الغرب المنحرفة لهم، ما معنى أن يحملق في البنات، ويشد على أيديهن كما لو كن جزءًا من حريمه؟ ونهى... نهى انبهرت به، وأعلنت أن الغيرة تقتل الجميع، الرجل وسيم، ودمه خفيف، وهو في مقتبل العمر، وقد عُيِّن لإدارة قسم مرموق يتطلع لمسك زمامه كل العاملين فيه.
هي... لم تعلق، بعثت إيميلا لزوجها: «الرئيس الجديد تحفة! سأشرح لك الأمر لاحقًا».
تعودت على إمطاره بالرسائل الإليكترونية، تشركه في كل أحداث يومها، تكلمه كما لو كانت تكلم نفسها، ولا يرد عليها إلا نادرًا، كان الأمر مختلفًا قبل أن تتزوج، كانت لديها شلة صديقاتها اللائي يشاركنها ولعها بالإيميلات المفصلة لأحداث اليوم، وأفكار اللحظة. انشغالهن بأسرهن حول اهتمامها نحو من يفترض أن يكون أقرب الناس إليها...
لمعت أسفل الشاشة نافذة تشير إلى تواصلها بإميل من... الرئيس الجديد، رفعت حاجبيها بدهشة، وقرأت محتواه، السيد يعرّف بنفسه، بمؤهلاته، بمسيرته المهنية، وبحالته المدنية، سبعة وثلاثون عامًا، عازب، ويحب الموسيقى الهادئة، والمطالعة، والسفر، كتمت ضحكتها، ورفعت عينيها نحو زميليها، الاثنان تلقيا نفس الإيميل، قال أمجد متهكما بأن الشق الأخير من الرسالة لا يعنيه هو وياسين وحبيب، ولمعت عينا نهى،
لفتت نظر الاثنين إلى جملة من الأخطاء الإملائية الفادحة في عدة سطور في الإيميل، وفتحت صفحة لكتابة تعليق ساخر لزوجها: «انظر، هكذا يكتب خريجو المدرسة العليا للتسيير، أسلوب رديء، وأخطاء بالجملة. فظيع، أليس كذلك؟ يجب أن ترى الرجل لتقيس حجم الكارثة، طول ما شاء الله فيه، وعقل توقف عند مرحلة الطفولة! السيد يريد أن نشرب الشاي معه، ونتعرف على بعض، سأل حبيب أين يحلق شعره؟ وقال لنزهة إن اسمها يذكره بجدة له كانت تغرقه بحبات البونبون، بربك هل هذا كلام يقوله مسؤول في مكانته؟ أتساءل عماذا سيحدثنا أثناء الفسحة، عن الشامة الصغيرة تحت عينه، هل يتركها أم يزيلها؟ أم عن ست الحسن والجمال التي لا يزال يبحث عنها، ويريد منّا أن نساعده في العثور عليها؟ شَاركِني الضحك، وألق نظرة على إيميله الذي أرفقه برسالتي...ويتساءل مفكرونا ما الذي يعوق تنمية البلد!؟ الجواب واضح أمثال بهلواننا العزيز، أولئك الذين يملكون وساطات تعينهم أينما شاءوا، ولا يهم إن لم يكونوا يجيدون الكتابة، أو يعرفون كيف يتعاملون مع من يعملون تحت إدارتهم...
نقرت زر الإرسال، وبقيت ساهمة.
خمس سنوات في دراسة الهندسة، لينتهي بها المطاف معاونة في إدارة صندوق الموارد البشرية، وظيفة مكتبية روتينية يمكن أن يضطلع بها أي خريج قسم آداب في الباكالوريا.
مضت لحظات طويلة قبل أن تتواصل بجواب، قرأته بذهول: «من المفيد أن يعرف المرء رأي المحيطين به فيه، آسف على الأخطاء، لغتي العربية ركيكة، وأحاول جاهدًا تحسينها، شامتي لا تضايقني، ولست مستعجلاً على الارتباط، آسف أيضًا على حال البلد، وآسف أكثر على طريقة تفكير الناس.
تجمد الدم في عروقها وهي تتطلع إلى إمضاء الرئيس، تواصلت بإيميلها! بعثته له عِوَض أن ترسله لزوجها! كارثة
لم تعرف إن كان عليها أن ترافق الآخرين إلى مكتبه أم لا، لم تقل لهم شيئًا، بقيت تلعن نفسها، وتتخيل حالها إن فقدت وظيفتها، لا يكسب زوجها الكثير، ولا يرفلان معًا في النعيم.
رافقت زملاءها، ومرت جلسة الشاي في جو ودي للغاية، بدا الرئيس راغبًا فعلاً في التعاون معهم، تلكأت في مغادرة مكتبه. تساءلت إن كان سيقبل اعتذارها...
هل لاحظ ارتباكها، وأشفق عليها؟ لا تدري، استوقفها، وقال إنه يريد أن يناقش معها أمرًا، وبقيت تستمع إليه لحظات طويلة.
لم يكن مهرجًا كما قالت عنه، ولا غبيًا، ولا ساذجًا، ولا سارق وظائف.
كان رجلاً كريمًا، تقبل اعتذارها بابتسامة حقيقية، وأنهى الموضوع ببساطة.