لا يزالُ سلوكُ القريب الذي هاجر إلى كندا قبل نصف قرن يُحيِّرني. وقد أتاحتْ لي علاقة القُربى أن أُلمَّ بالعديد من قصصه وحكاياته؛ وكلّها تروي سوء الفهم القائم بينه وبين العالم الجديد؛ ومنذ الخطوة الأولى حين رفض أن يرسلَ أولادَه إلى المدرسة هناك.
وإن سألته لماذا؟ يَمضي في تعداد الأسباب كي يبرّرَ سلوكه الغريب، ويبقى تعلّقه بإرثه العربي في المقدِّمة:
لا أريدهم أن يُقدِّموا لغةً أجنبية على لغتِنا العربية.
ولكنك مُقيم في هذا البلد الأجنبي الذي اخترتَه، ومعك أولادك، وقد سعيتَ جهدك لكي يحصلوا على هوِّية الوطن الثاني، وسوف يقيمون فيه، ويتعاملون مع أهله في مستقبل الأيام...
وهناك أكثر من سبب يدعو المغترب إلى تعلّم لغة البلاد التي هاجر إليها، من دون أن يتخلّى عن لغته الأولى.
***
لكن قانون الوطن الجديد لا يرحم ولا يُساير. وفي ذات يوم، نهض صاحبنا على صدى قرعٍ على بابه. وعندما فتحه طالعه إثنان من رجال الشرطة، ويحملان إليه أمراً يُلزمه بإرسال أولاده إلى المدرسة.
***
لم يكن إقناعهُ سهلاً، خصوصاً وان هناك جهلاً للغة التفاهم من الطرفين؛ ممّا استدعى تدخُّل مختارِ الجالية العربية الذي تولّى شرحَ الأمور، لكلا الفريقين، كما بذل جهداً خاصاً كي يُقنعَ الرجل بأن "المرجَلة" والتهديد لن يُجدياه نفعاً، إذْ باتَ واحداً من مواطنين يسودُهم القانون، والذي لا يفرِّق بين قريب وبعيد، أو بين غنيّ وفقير. كما أن التعليم في هذه البلاد إلزامي، وإذا شاءَ ان يبقى مُواطناً مُحترفاً، فعليه أن يطيع القانون.
***
وهكذا هو نظام الدول الواعية والصاحية؛ حتى اذا تخلّف مواطن عن القيام بواجبه أو الإنصياع للقوانين السائدة، تدخّلَ المشرفون على النظام، وتصريف الشؤون المدنية، وألزموه بالعودة إلى الطريق القويم.
***
وفي زيارةٍ لاحقة، فاجأني قريبي بسؤال لم يكن وارداً في حسابي.
وسؤالُه كان يتعلّق بطائرِ الكناري؛ وقد حملَهُ من كرومِ القرية، عندما قدمَ إلى كندا؛ وهرّبة عبر الحدود؛ لأن قانون البلاد لا يسمح بإدخال حيوان أو نبات. وحتى البذور تُمنع، مُحافَظةً على الثروة الحيوانية والنباتية، من أمراضٍ قد تتسرّبُ اليها عَبْر بوابات العبور.
***
وتجاوزَ الكناري رقابةَ الحدود ودخل خلسة. لكنه لم يتحمّلْ قَسوةَ الطقس المثلج، والذي لم يلبثْ أن قضى عليه؛ وأوقعَ صاحبَهُ في الحيرة؛ لأنه أقسمَ أمام قفصه، بأن يُعيدَه إلى الوطن، ويدفنَه في تراب بلده.
لكن عودة الرجل تأخّرت، مما دفعه لأن يودِعَ الطائر في الثلاجة، ريثما يعود.
***
وعندما التقينا من جديد، وطرح عليّ سؤاله العجيب، كان قد انقضى عشر سنوات، على تجميدِ الطائر المسكين، وهذا ما جعلَهُ يُدخلني في دوامة أسئلته من جديد؛ وإذا كان جائزاً ان يُبْقي الكناري في مَثواهُ المثلج ريثما تتوفّرُ له إمكاناتُ العودة.
***
بالطبع، لم يكن لديّ جواب على مشكلة من ذلك النوع الغريب. غير ان سؤالَه في حينه، أوحى اليّ بكتابةِ قصّة عن أحوال المغتربين، واتخذتُ الطائر رمزاً لها؛ إذ كان توقُ صاحبِ الكناري مَنْ ينطقُ باسمه ويشرح معاناة الغربة.
***
وهذا هو الرجل، يزورني الآن، ويرافقُهُ أحدُ أبنائه.
أما غايةُ زيارته للوطن فهي "البحثُ عن عروسٍ تليقُ بالمحروس".
هذا هو التعبير الذي استخدمه ليشرح لي الأمر، ويُعدّد مخاوفه من وقوع فتاهُ في شرك الغريبة، وهي لا تمتُّ بصلةٍ إلى تقاليدنا وعاداتنا.
***
وهذه القصة ليست غريبة عليّ؛ إذْ عاشتْ معي منذ ذلك الزمان الأوّل، في قريتي؛ وحين كان المألوفُ والسائد، أن يعودَ المغتربُ بعد غيابِ سنين، ويبحثَ عن عروسٍ فتيّة، يتزوّجها، ثم يعودُ معها إلى مقرّ إقامته في المهجر.
***
وكم من قصص كانت تدور في فلكِ هذا الموضوع، وتُخلِّفُ ذكرياتٍ مفرحة أحياناً، ومُغلَّفة بالحزن في معظم الأوقات.
***
وهذا مغترب آخر، ومن زمن غير الزمان الأول. لكن الوالد الذي هاجرَ منذ نصف قرن، وحملَ معه تقاليدَ زمانه، أبقاها مجمّدة، مثل اللغة التي رافقتْه، والعادات.
وظلّت تحمل طابع زمانها حين لم تتفاعل مع محيطها، أو تدخل في حوارٍ مع المكان وحضارته.