من الصبابة والوجد ـ2ـ

لست موقنا، غير أن مرآها هذا أضفى على ذلك النهار طلعا نضيدا، ما زال اليوم بعد في بداياته، ما زال ممتدا، واعدا، وما سأراه ستقع عيني عليه أول مرة، ضباب يغمر نهايات الحديقة، ساحت عندي بهجة لم أعهدها منذ زمن، وألح عليّ الخاطر أن أفارق الغرفة، أن أنزل فألقاها، حاد بصري عنها لحظات، وعندما عاودت النظر كان الإطار ولم يكن المضمون، بدت الحديقة والساحات أضيق بما رحبت، مستباحة لشتاء قاس، فانثنيت أتم ارتداء ملابسي، أرتب حوائجي، تواقا للمغادرة، لبدء التوجه صوب جهة لا تزال مجهولة، مغمور ذكرها عندي، قبل خروجي عاودت النظر، رجل عابر منحنٍ إلى الأمام، يمشي حثيثا، في المطعم جلت بعيني طويلا، لم أرها أين مضت، وأي حيز تشغله الآن؟ وهل ينبئها حسها بما يتحرك عندي؟ أخذها الصحب مني، فأجبتهم، واستفسرت منهم، وأصغيت وحاورت، لم يكن الأمر قد بدأ بعد، ولم يكن الشروع في التوالج قد جرى، عندما بدأنا الحركة رأيتها، وعندما اتجهنا إلى الحركة رأيتها، تتأهب لصعود العربة التي ستقلنا في جولتنا العامة، من مقعدي الخلفي لاحظتها وهي تدنو، تقترب من الرجل الهندي، تقعد بجواره، فكان لي التمكن من النظر إليها، إلى شعرها الطويل، نافر الخصل، عبر النافذة كنت أتابع تدفق الطرقات، واجهات المباني مزينة الواجهات بنقوش قريبة مني، كان نظري يجوس ثم يحط عندها، أطمئن لوجودها، آمن لقربها، أفكر في كيفية الدنو من مشارف حضورها، نزلنا في الساحة الرئيسة، الهواء صادم، قادم من أقاصٍ مجهولة، كانت تميل على الرجل الهندي تنقل إليه الوصف والشروح، تمكنت ببصري من جانب وجهها الأيسر ثم الأيمن، فأيقنت أن أمرا مقدرا منذ الأزل بدأ ينفذ، في المعرض الرئيس أبطأتُ الخطو حتى أقترب، ولكنني أبتعد، فما أصعب البداية، كنت أطوف حولها، هي في حركة، وأنا في حركة، كان اقتراب كل منا من الآخر يتم في حركته، اعلم يا صاحبي -أنار الله برهانك- أنه  تنفصل حركة عن حركة إلا بسكون بينهما، وهذا لا يعرفه ولا يشك فيه أهل الموسيقى؛ إنهم يتقنون تأليف النغم، والنغم لا يكون إلا بأصوات، والأصوات لا تحدث إلا من تصادم الأجسام، وتصادم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بسكونات تكون بينها، فمن أجل هذا قال أهل النغم: إن بين زمان كل نقرتين زمن سكون، وأثناء طواف بصري بها كان لي أزمنة سكوني أيضا، إذا يتاح لي التمكن منها، من ملامحها، من قسماتها، أولي البصر بعيدا ولو لثوان، ألأني أستوعب ما أرى؟ ربما، أم أن ما يقع بصري عليه أغنى وأغزر مما أقدر على شموله مرة واحدة، شأن من يحسو شرابا مسكرا، رائقا، فيرشفه على مهل لإطالة المتعة، والتمكن من القدرة؟ ربما نعم لهذا كله، وربما لا، غير أن ما أعرفه أنني عند خروجنا من ذلك العرض، كانت تقف أمام المدخل بمفردها، يداها في جيبي معطفها، عزمتُ أموري وتقدمت مبتسما، مشيرا إلى آلة التصوير، هل تسمحين بصورة؟

أومأت مبتسمة، وإن طاف بوجهها حيرة، لم تأذن لي مباشرة، بل بدت متحفظة، لم أرتد خائبا إنما آثرت الابتعاد إلى حين، ربما لأنني طفت ما بين عينيها، وجلت خاطفا عبر قسماتها، كانت ملامحها وثيقة الاتصال، العينان الواسعتان ذواتا الحيوية والبريق، والوجنتان الثريتان كالخبز الساخن، والشفتان الدالتان على عالم لن أبلغه إلا بشق الأنفس، حتى إذا جزت عبره، ودنوت من مشارفه لاحت لي طرائق شتى، ثلاث مرات حتى العصر اقتربت منها، وفي كل مرة أقول مبتسما: لا تنسي الصور، فتجاوبني بابتسامة غير أنها لا تتخذ وضعا، لا تتأهب، لا تأذن ملامحها لي، فأبتعد وعندي مس من الخجل وتردد، أنضم إلى صحبي، غير أنني من لحظة المخاطبة تلك لم أكن أتحرك في المطلق، لم أكن أمضي عبر فراغ، فكل خطوة عندي تجاهها، وكل إشارة من يدي هي المعنية بها، ومع التفاتتي توقع بأنها ترقبني، وعند صدور ضحكة أثناء محاورة أضمنها رسالة خفية إليها، كذا جلوسي وقيامي، كان مرورها قد بدأ عندي، جازت داخلي، فاتت عبر حواجز شتى، وموانع قديمة، فكت أرصادا، وحلت طلاسم، تسربت عبر شقوق نفسي وفرجاتها، وهذا يا صاحبي جديد عندي، فهذا حالي أبسطه إليك، وأشرحه لك، علِّي أخفف، علِّي أقدر على الشرح.