الحب الأسود..!

كلما حاولنا نفي تهمة التطرف عن ثقافتنا وجدنا الشواهد من حولنا تكذب افتراضاتنا، وتفضح ادعاءاتنا، وتحبط آمالنا، فنحن تشرَّبنا التطرف والميل كل الميل من تراثنا، وورثنا العناد والتصلب وجمود الرأي عن أجدادنا الأوائل، الذين كانوا ينصبون الخيام البالية في خضم العواصف العاتية، ولم يكن ينقصنا سوى شاعر متغطرس مثل «عمرو بن كلثوم»؛ لينثر الملح على «الجرح النرجسي»، بقوله:

نحن قوم لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

ومنذ ذلك الحين والإنسان العربي متطرف في كل شيء، في الجوع والعطش، في الصحة والمرض، في الغنى والفقر، في البخل والكرم، في الوفاء والخيانة، في الشجاعة والجبن، في المديح والهجاء، في الصدق والكذب، والأهم من ذلك كله أنه كائن مفرط في مشاعر الكره والحب، لكن من المفارقات العجيبة أن الكره يزيده عنادا وصلابة، وربما طول الأمد، بينما الحب -بالنسبة له- أقصر الطرق إلى التعاسة والموت، فمتى أحب حمل روحه على كفه، ووضعها تحت أقدام محبوبته، ليستعذب صنوف العذاب، ويتماهى مع العشق حتى الفناء..!

وكم ألفت الأذن سماع جمل ومفردات تنضح بالسوداوية مثل: «أحبك موت»، و«أموت فيك»، و«أعشقك موت»، و«أفديك بعيوني»، أو «يا بعد روحي»، و«عسى يومي قبل يومك»، حتى أن أهلنا في القطر الشامي اختصروا كل ذلك بكلمة «تقبرني»..!

ولئن كان العربي جُبل على رمي كل أخطائه وعثراته على الغير، ويعشق نظرية المؤامرة، فلم يتهم أمريكا وإسرائيل بحرمانه من التلذذ بالعشق والتمتع بالحب، ليس من قبيل النزاهة وتحمل المسؤولية، وتبرئة القوى العظمى من الفوضى العاطفية العربية، بل لأن تاريخ العشق العربي المخضب بدماء العشاق يكذب كل من يحاول اعتبار الانتحار على أسوار المحبوبة آفة وافدة من الثقافة الغربية..!

ومن الأمثلة التي تؤكد تخصص العرب وتفننهم في الحب الأسود وتسويق الأدب العربي للعشق الذي يخلف الدمار الشامل تأملوا معي كيف تسبب مزاح «الأصمعي» بمأساة لأحد العشاق؛ حيث روى «الأصمعي» أنه كان يسير ذات مرة في البادية، فوجد حجرا كتب عليه هذا البيت:

أيا معشر العشاق بالله خبروا

إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع؟!

فكتب «الأصمعي» تحته:

يداري هواه، ثم يكتم سره

ويخشع في كل الأمور، ويخضع

ثم عاد «الأصمعي» في اليوم التالي، فوجد هذا البيت مكتوبا تحته:

وكيف يداري، والهوى قاتل الفتى

وفي كل يوم قلبه يتقطع

فكتب «الأصمعي» مجددا تحته:

إذا لم يجد صبرا لكتمان سره

فليس له شيء سوى الموت ينفع

وفي اليوم الثالث وجد «الأصمعي» شابا ميتا تحت الحجر، وقد كتب قبل موته هذين البيتين:

سمعنا، أطعنا، ثم متنا، فبلغوا سلامي

إلى من كان بالوصل يمنع

هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم

وللعاشق المسكين ما يتجرع

 

وهنا يتضح للقارئ أن العلاقة بين العشق والموت في الذاكرة العربية، كالعلاقة بين التطور والبحث العلمي عند الأمم الأخرى، وإن ادعى أحد أن قصة «الأصمعي» مفبركة؛ أو ملفقة مثل غيرها من أكاذيب التاريخ المحترمة، فما عليه إلا أن ينتقي بنفسه شواهد أخرى، وعليه عبء التأكد من مصداقيتها..!

وإن بحثنا عن شواهد أخرى من العصر الحديث، نجد الشاعر الكبير «نزار قباني» الذي زار دمشق بعد غياب سنين، يقول:

هذي دمشق، وهذي الكأس والراح

إني عشقت، وبعض العشق «ذباح»

أنا الدمشقي، لو شرحتم جسدي

لسال منه عناقيد وتفاح!

أما إن كان القارئ أكثر التصاقا بالثقافة العامية، فما عليه سوى فتح ديوان الشعر المحكي «الشعبي»، وسيذهل من ملايين الشواهد التي تؤكد ظلمات العشق لدينا، وأقربها إلى الحافظة الآن قول الشاعر «سلطان الأسمري»:

أموت، وأعشقك، وأرجع أعشقك وأموت

وأحيا من الموت، لأجل أعشقك ثاني

وأموت وأرجع وأعشقك داخل التابوت

ما بين هذي وهذي صعب تنساني

وبعيدا عن هذه الصورة الشعرية، التي يزعم فيها الشاعر «الأسمري» أنه متعدد الأرواح، وأنه يستطيع أن يعشق حتى من داخل التابوت نعود إلى القرن الهجري الرابع، لنجد أن المتنبي نفسه يستغرب كيف يموت منْ لا يعشق، حيث قال:

لقد لمت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

فالمتنبي هنا لا يقر بحتمية الموت إلا في حالات العشق..!

ولم يقف الشعر المتشح بالسواد والمتدثر بالظلام عند حدود عشق الحبيب فقط، بل انتقلت العدوى إلى الأوطان، فأصبحنا متآلفين مع الأهازيج الوطنية، التي يردد فيها الناس دوما بأنهم يفدون أوطانهم بالروح وبالدم، وأغفلوا حقيقة أن الأوطان تحتاج إلى بناء وتعمير، وتعليم وتطوير، ومدنية وصحة وثقافة، أما الدماء فليتبرعوا بها لبنوك الدم والمرضى في المستشفيات، إن لم تكن مزاعمهم مجرد شعارات فارغة..