ثلاثتنا ننظر بدهشة إلى الشرطي الذي ترجل قربنا. لقد حضر حقا. وبسرعة. هم في خدمة الناس إذن وليسوا جبابرة عتاة كما يقال عنهم.
همس الشاب الجالس قربي : “ مذهل ! أتوا على وجه السرعة ! “
وتمتم السائق بكلام غير مفهوم. وبدا مرتبكا.
“ أخرجوا ! “ أمر الرجل، وارتجفت وأنا انظر إليه.
لم يسبق لي أن وقفت هكذا أمام الشرطة.
“ والآن، ماذا حدث ؟ “
اتكأ زميله على سيارة الأمن واقترب وحملق فينا بتمعن.
“ أولا، من اتصل بنا ؟ “ سأل الشرطي، ورد سائق سيارة الأجرة بذعر : “ أنا، أنا اتصلت يا سيدي...”
“ ماذا حدث ؟ “ كرر الأول سؤاله، وأجاب السائق وهو يشير إلينا : “ هذان الشخصان يا سيدي، تشاجرا في سيارتي، ورفضا أن يغادراها حين طلبت منهما...”
“ إحك بالتفصيل “ قاطعه آمرا، وتلعثم السائق :
“ سيدي... أنا... أنا كنت أمر من الشارع، واستوقفتني الفتاة، وصعدت، وصعد قربها رفيقها، ثم بدآ يتشاجران، وتعالت أصواتهما، ولم يريدا أن يخبراني أين سيذهبان، وطلبت منهما أن يخرجا، ولكنهما رفضا، و... و هدداني... “
“ بماذا ؟” سأل الشرطي الثاني، ورد السائق وهو ينظر إلينا متهما : “ قال الشاب بأنه لن يتحرك من مكانه، وقالت رفيقته بأنها ستتهمنا بأننا اختطفناها. سيدي... الباب على اليسار معطل، لا ينفتح، ماذا أفعل إن رفض صديقها أن يدعها تغادر السيارة ؟ “
“ ليس صديقي ...” تدخلت بعصبية، ورمقني الشرطيان بصرامة : “ لا تتكلمي ما لم نسمح لك. تتهمين الرجلين إذن باختطافك ؟ “ سألني الأول، وأجبت بعجلة : “ نعم، أقصد لا. في الواقع...”
“ كوني دقيقة من فضلك. “ أمر الثاني، وتنهدت بشيء من الخوف و أحاول ترتيب أفكاري : “ حاضر سيدي. أنا لا أتهم أحدا. لا أريد أن تصل الأمور إلى أبعد مما حدث. أوقفت التاكسي وصعد هذا الرجل إليه معي. طلبت منه أن يترجل، ولكنه رفض. قلت للسائق بأن عليه أن يتصرف. أحمل مبلغا هاما من المال، ولا أريد أن أخاطر به...”
“من تظنينني ؟” قاطعني الشاب “ لست لصا !”
“أصمت” أمره الشرطيان بصرامة، والتفت نحوه :
“ وما أدراني ؟ رئيس المكتب ينتظر المال، ولا وقت لدي للتحقق من هويتك، ولا رغبة لي في ذلك أيضا. سيدي الشرطي، أنا مستعجلة حقا. ألا يمكنني الذهاب الآن والمرور على مكتبكم لاحقا ؟ رئيسي ينتظر ...”
“عليه أن يصبر” رد الشرطي ساخرا وعاد يسألني : “تقولين بأنك لا تعرفين هذا الرجل ؟”
“ لا بالتأكيد...”
“ نحن نعمل في نفس الشركة” أكد الشاب وأخرج حافظة أوراقه ومد بعض الوثائق إلى الشرطيين ، وتابع : “ ربما هي لا تعرفني بالوجه ولكنني مسؤول عن كل المعاملات التي ينجزها رئيسها. أنا مدير القسم المالي...”
“غير صحيح” قاطعته “ أعرف المدير المالي جيدا. لست هو. لعلمك، حضرته أخذ رخصة مرض منذ أسابيع...”
“صحيح” قال الشاب “ وقد استلمت شغله. ولعلمك أيضا، حضرته قدم طلبا للحصول على تقاعد مبكر، مشاكله الصحية كثيرة، وتم تعييني مكانه...”
فغرت فمي غير مصدقة، وتابع وهو يستعيد أوراقه من الشرطي : “ كنت في مكتب مدير البنك عندما اتصل موظف الشباك يخبره بشأن الشيكات التي قدمتها. خاطر رئيسك عندما بعثك لهذه المهمة. لحقت بك لأرافقك إلى البناية. كثرت السرقات هذه الأيام، والمدير كان يحدثني عن اللصوص الذين يتصيدون زبائنهم داخل البنوك...”
صمتت وحملقت فيه بارتباك. هو المدير المالي الجديد إذن. وأنا التي نعتته بأقبح النعوت.
“ماذا الآن ؟” سأل أحد الشرطيين “ هل تعرفان بعضكما أم لا ؟”
هززت رأسي بصمت. لم أقدر على النطق بكلمة. وابتسم المدير المالي : “لا مشكلة إذن” قال للشرطيين، لكن سائق التاكسي تدخل متذمرا : “وصبيحتي التي ضاعت ؟”
دس المدير بضعة أوراق نقدية في يده، وانتحى بالشرطيين، ثم عاد إلي : “تفضلي”
فتح باب التاكسي الذي ظل واقفا قربنا، ورد على سؤالي الصامت وهو يأخذ حقيبة النقود من يدي :
“ لدي سيارة طبعا، ولكنني نادرا ما آخذها عندما أتنقل وسط المدينة...”
ابتسم لنا السائق ابتسامة عريضة في المرآة، وانطلق وهو يدندن.