أنتِ: موسيقى


تترقبين خروج الزنبقة من رحم العود.. وما لك أنت وعود زهرة عبيرها يخنقنا بالحنين؟

من أنتِ أصلا حتى تدخلي في كلامي، تتطفلين على ورقي وأقلامي؟

- أنا رعشة العود يا غلام.. أنا قنبلة انفجار الكمنجات كلها في أنين واحد متصل كالهدير.. أنا مستقبل الموسيقى العربية، وأنا ماضيها، ولست حاضرها.

- ما أنتِ؟ أنتِ امرأة أم فكرة؟ أنتِ ناي أم جنون؟

- أنا فاتنة تخرج من البحر المتوسط، فتتزلزل الأرض تحت قدميّ الحافيتين، الخفيفتين كنسمة، الغازيتين لقلوب النساء والرجال والأطفال.

- أنت إذن موسيقى؟

- أنا تجسُّد الموسيقى.

انظر أصابعي، تقاسيم عود ظاهرة للعين: خنصر فبنصر فوسطى فسبابة فإبهام، عقلة فعقلة فأنملة، من الجذر المتصل باليد حتى الأطراف المرهفة التي تُسمّى الأنامل.

وانظر قوامي، هو« قانون» قانونه الوحدة والتنوع، وانظر في عينيّ، ماذا ترى؟

- أرى مدائن تنهار وأخرى تقوم.

- بل أنظر أعمق..

- أرى فلاحا تحت شجرة جميز، في يديه قصبة مثقبة موصولة بشفتيه..

- وماذا عن أنامله؟

- إنها تداعب الثقوب، ترقص فوقها..

-  وهل تبصر صوتا؟

- نعم، أبصر صوتا يخرج من تلك الثقوب، يصعد حتى يمتزج بالزرقة، فيزيدها زرقة على زرقة.. نعم.. نعم.. عيناك زرقاوان!

- ليستا دائما زرقاوين..

استمع إلى لونهما الآن..

- الليل ذو النجوم، الليل ذو النجوم بيانو.. عيناكِ بيانو أسود، ليل ذو نجوم.. إذن.. إذن، عيناك سوداوان.

- اصبر على رزقك.. واحصد الآن عطائي الأخضر.. استمع:

- ارتعاش عيدان.

- الأرز والقمح والبرسيم.

- القمح والقطن والذرة.

- ارتعاش عيدان، أوتارها قادمة من بعيد، من أيد خشنة وأقدام متشققة مفلطحة، خطت أول ما خطت وانطبعت في أول طيف احتضن البذرة. هكذا تتكلم عيونك بصوت العود، عود النبات، القديم الجديد الأزلي.

عيونك خضراء، طبعا خضراء.

- أكتفي الآن بهذه الوصلة الغنائية من عينيّ، لنهبط إلى الشفتين، ولنسأل: ما الموسيقى التي تشمها إذا انهدلت خصلات شعري على الكتفين، وإذا ما سالت وهفهفت على الجبين والعينين؟

- أشم حوار الرق والكمان..

-  وموسيقى شفتيّ إذ تتكلمان؟

- اصمتي حتى أسمع.. نعم، أسمع، إنني الآن عند ساحل المتوسط أسمع بُزُق اليونان، جيتار إسبانيا وكاستانيتها.

- وماذا عن صمتي؟

- كل الأوركسترا، كل التخت الشرقي، طبول الزنج، وسنطور الفرس، وسيتار الهند، إن حضورك، وجودك، يغْني عن كل صوت؛ فالموسيقى تجسدت في صمت شفتيك.

وتوزعت في أعضائك:

ذراعاك عزفان منفردان لآلة الكمان، قدماك إيقاع فرح كشخاليل الراقصات، صوتك كونشيرتو لآلة الفلوت، جسدك أوركسترا كاملة، وإذا استفضت في الكلام عن عازفيها لجاوزت القصد.

يكفيني أن أصفك بأنك موسيقى النظام الكوني، انسجام الاتزان والتوازن، تداخل وتقاطع الدوائر السابحة، الإيقاع المنضبط لرقصة الفلك داخل الفلك داخل الفلك.

"كل في فلك يسبحون".. الحروف من اليمين لليسار: ك-ل-ف-ي-ف-ل-ك، ومن اليسار لليمين:ك-ل-ف-ي-ف-ل-ك.

الدورة الدائرة، ما إن ينتهي نغم حتى يبدأ أخوه، فتبارك الجميل الذي يحب الجمال، البديع الذي يبدعه، سبحان الذي قضت مشيئته أن يجعل كل شيء يدور، دورانا بلا دوار.

كذا ساقية النغم: تصعد من قدميك عبر الساق إلى الجذع فالغصن، وتتدفق كالماء المسَكَّر المسكِر إلى الثمرة التي هي عقلك، فيوزع الأنغام على كل عضو، فتكتمل الأوركسترا، وتتبادل الأعضاء أدوار العزف المنفرد.

ويمتزج الشرق بالغرب؛ الشمال بالجنوب، طبول الزنج برقرقات الرق بالبوق النحاسي، الناي بالفلوت، الجيتار بالعود، البيانو بالقانون.

- وأنا بك، نحن نمتزج الآن، فلن تعرف بعدها أين تنتهي الموسيقى ليبدأ السامع، فلقد سكنتك يا سامعي حتى صرت تسكنني، فأنت سكن لي وأنا سكن لك.

- أنتِ..

- أنا الزنبقة التي خرجت من رحم العود.

أنا رعشة العود، تجسد الموسيقى؛ جسد النغم الطروب، عروس نثرك الذي يبحث عن عذوبة الغناء، فلا تجادلني في العذوبة يا غلام، وضع –سلِمْتَ- نقطة الختام.