عند هذا الحد طوحت بي طوائح القرب، تعرف يا أخي –أيدك الله- أنني في ذروة الفرح أستشعر دبيب الحزن، وعند اكتمال القرب يقضي احتمال البعاد، وعند تمام الوصول أتطلع إلى لحظة الإقلاع، في هذه اللحظات لم يعد إلا هي، لا صاحبي، ولا صاحبتها، ولا متقن لغة لاوس المهذب، الصموت، ولا أنا، كان النهار يقترب والليل يتلملم، وإرهاق ناء بكلكله عليّ، كنت بدأت أتردد إلى الوتيرة، أفكر في جولة الغد، في ساعات لابد أن أنامها، أن أهجع فيها حتى أرى ما قضيت سنوات طوالا أطالع أوصافه، وها هو يدنو مني، وأقترب منه، تطلعت إلى صاحبي، فهم عني، فأومأ، أدركت هي فأبدت احتجاجا:
«ستنصرفان؟»
لم أجب، غير أن صاحبي قال:
«لابد أن تنام ناتاشا، لابد أن ننام، أمامنا غدا جولة وسفر»
التفت إلى ناتاشا متسائلا:
«نريدين النوم؟»
أجابت البنية بابتسامة، وعندما تأهب متقن لغة لاوس للكلام فاجأته قائلة:
«اسكت، أنا لا أفضل الاستماع إليك»
بدا حائرا، وبدوت مثقلا، مرهقا، مصغيا إلى هواجس العلة القديمة وقلبي الذي قد يتخلى عني فجأة، قالت:
«لم يتبق على طلوع الفجر إلا ساعة أو أكثر قليلا، لماذا لا نقابل النهار معا؟»
بحدة التفت إليها، لا تعرف هي.. لم بدا مني ذلك؟ لا تدري فميراثي طويل، لم أفض به إليها، يوما ما، منذ أمد، وقد كنت في عشق عظيم، هاتفت بعد منتصف الليل مقترحا أن نلتقي عند الفجر، أن نرى مجيء النهار معا، نهار بذاته، بعينه، نهار سنذكره طويلا، أبدت ترددا وتخوفا، وإن أعجبها مقترحي، فلم يكن اعتراضها عليه إلا شكليا، أنا من اقترحت وشرعت يوما أن تدور الدائرة، ويُتلى على مسامعي مثلما قلت، وممن؟ من هذا الفلك الأنثوي الذي أصبحت أحد توابعه، فإما درت حوله، وإما انجذبت نحوه، وإما أفلت من أساره فأهوي إلى عدم، يجيئني الاقتراح منها، تبدي هي الرغبة، وأتردد، بل أعتذر، كلا بل أرفض أنا، أين تلك الأيام التي انقطع عهدي بها عندما كنا نسهر صحبة في المقهى القديم، حتى إذا دنا الفجر وشقشق قمنا إلى المسجد القريب، نتنسم صفاءه، وروائحه، ولا نخرج منه إلا والنهار مكتمل، وداخلنا نشاط، ورغبة في السعي، ما من وهن، ما من عطب مدركنا، أين زمن الحرب، عندما كنت أقضي أياما ثلاثة أو أربعة يقظا، منتقلا من موضع إلى موضع، ومن خطر إلى خطر، أين هذه الأيام؟ أين؟، إغفاءة دقائق أثناء حركة العربة من مكان إلى مكان، تجدد وتعيد التدفق، فأقبل على الحركة نشطا، أين؟ أهو السن؟ غير أنني لم أتقدم، لم أوغل، أهو الحماس للقضية، أم أمر العلة، ولكن العلة قديمة، غير أنها كامنة، فلما اكتشف المداوي أمرها تزايد وعيي ونشب عندي حذري، وصارت أفعالي في الحدود، بعد أن كانت في المطلق، كنت أعي أن هذه لحظات ستصير زادا عندي إذ أتقلب في البلاد، وأحط في المرافئ، هذا القرب وذاك الحضور سيثير رعشة من أسى عند تذكره واستعادته، خاصة عند الشروع في الإقلاع أو الوصول، زاد قليل نفيس، عزيز، والمسافات شاسعة، والمراحل عديدة، فلماذا لا أبقى، لماذا أنأى، لماذا لا أستجيب خاصة هي التي تطلب وترغب، ربما لوعيي أنني مهما بقيت فحتما على انصراف ونأي، ربما لرغبتي في الانفراد، فما دمت على مرأى منها وهي في ناظري غير قادر على الالتفات داخلي ولو للحظة، قلت:
«إنني في حاجة إلى النوم..»
قالت محتجة:
«سيجيء زمن ننام فيه طويلا»
قلت:
«ربما لأنني مرهق..»
قالت:
«كل شخص فينا مرهق..»
تأبى هي انقضاء الصحبة، وأتمنى لو بقيت على مقربة منها، لكنني راغب أيضا في التوحد بذاتي، وبما أني أبديت، فالنكوص وعر، عند الباب التفت محييا، لأنظرها من هنا، من موضع مغاير، وإذا بها يا أخي تشرع قوامها، تقف فوق التخت حتى يوشك رأسها أن يلامس السقف، تميل برأسها يمنة ويسرة، تبسط ذراعيها يمنة ويسرة مرددة بنغم غريب: حيرني.
سيام.. سيام
إنه إيقاع اللفظ الذي أحببت سماعه منها، أتلبي أم تسخر؟ وعندما أويت إلى مضجعي أيقنت من اكتمال اجتياحها لكينونتي، وأن ما تراءى لي سرابا سار حقيقة، وأن ما أصغيت إليه دبيبا صار ركضا، غير أن ركبها ما زال نائيا عني، قصيا، فكيف أبلغ الرسالة، وكيف أتمكن من الإفضاء حتى ولو بإشارة، بتلميح، كيف يا أخي؟