غادرني كل جواب، نفد زاد الكلام مني، صرت نبضا كليا، وتبسبست خفقا، قلت إن دليلي هو حالي، وليس لي إلا السعي، ولها الرفض أو القبول، ولأن الزمن ضاغط، والحال صعب، فما اعتماد عندي ولا اتكال إلا على سلامة إحساسها، وصفاء كونها من الكدورات المعيقة لما عندي، وهذا حسبي، كانت نظراتنا في لحظات انجذاب عظيم، وتلاقٍ، هذا ذروة فلكي، ونبض توقيتي، كنت من حيثُ لا أدري أبحر نائيا عن مركزي، وكانت هي تدنو متدانية صوبي، قادمة من أقصى المجرة التي لا ترى، كانت تتأهب لتأسرني فأدور في مجالها، وأسبح في فلكها، ألا تهيم الكواكب والشهب والنيازك في المطلق حتى إذا دنت من مجال للجاذبية يحس ولا يرى، يبدو فعله ولا يمكن الإمساك به، تهوي مقتربة منه، فمنها ما يدور إلى أبد لا حد له، ومنها ما يحترق قبل الدنو من سطح الفلك، ومنها ما ينفذ بعضه فيحدث سقوطه دويا هائلا، مهولا، وقد كنت هذا كله فأنا دوار، مندفع، مأسور، محترق بذاتي، بها، لا راد لي ولا كابح، حتى إذا أفضيت، وخففت عني ثقلا رصدت في أفق عينيها بادرة، ربما كان طيفا أدق من أن يرى، ربما كان ميلاد رائحة ندى، لم يغب عني، مع أنه انتهى قبل بدئه، إلا أنه وصلني، فبدأ عندي ركض، وشبت زلزلة، خبطت اليابسة بقدمي، خبطت الكوكب، فتفجر مني أمر قديم، وبدأ تدفق خبئ طال كمونه، درت حولي، ملت عليَّ، أقلعت تجاهي، تدفق قلبي المرهق، المعطوب، يعدو إثري محاولا اللحاق بي، أما القوم حولي فابتعدوا قليلا، مفسحين الطريق لتفجري، أما الموسيقى المتفجرة فلم تعد مطاوعة، صارت الأنغام ورائي فتلاشت الكينونة، ولاحت الحضرة أما هي فرسخت، ارتدت إلى جوهرها الدري، تقف بميل قليلا إلى الوراء، حضورها في علٍ، دائما مطلة، مشرفة، تبسط يديها، تصفق تصفيقا هينا، لينا، حتى إذا بلغت الحد أقعيت أمامها، ظن القوم أن روحي مفارقة مأواها، جاء صاحبي، قبلني، صفق وصفقوا معه، عدت إلى مقعدي أجرجر خطاي، مع أن يقينا بأنني تخلصت من بعض أثقالي، رميتها خلفي، غير أن كدّ قلبي وتسارع لهاثي جعلاني غير مطاوع أو مقصر، قعدت، أطرقت، فكأني في الظاهر ما قمت ولا تأججت، وعندما دفعت عيني كانت متطلعة إليَّ فابتسمت، فيما بعد قال لي صاحبي: لماذا كنت تبدو حزينا وقتئذ؟ ربما لأن انفلاتتي انتهت، همد تأججي، اقترح أحد الحضور أن نغني لصاحبي، بدأ إنشادا بلسان غريب عني، لم أعرف الكلمات، غير أني تظاهرت بالمشاركة، بعد أن كفوا اقترح صاحبي عليَّ أن ننشد شيئا من عندنا، وقفنا، نادينا بلادنا البعيدة، كان اللحن شائعا، سهلا علينا ترديده، كنت أغني، وأطوف ببصري حولها خلسة فألقاها مبتسمة، ناظرة إلينا، يداها مبسوطتان، متجاورتان، متلاصقتان، مدسوستان بين ركبتيها، هل نما إليَّ من ابتسامتها خبر؟ لم أشأ اتباع اليقين، وإن لاح عندي أمل، خبا الضوء، تجاوز الليل منتصفه، هجع القوم، وفي مدينتي النائية التي أحتفظ بتوقيتها في ساعة معصمي، كان الليل ما زال بعد في أوله، انصرف الرواد، لم يتبق إلا نحن، وقفنا، أقدم رفاق الرحلة على تحية صاحبي، خرجنا معا، حيانا شاعر من أميركا اللاتينية، أما الهندي فقال إنه ماضٍ للنوم، بقينا في الصالة الفسيحة أربعة: صاحبي وشاب من أهل البلاد يتقن لغة أهل سيام الآسيوية، ومن قبل ومن بعد هي، مشيت أمامنا، ولها صدى وترجيع، ونحن في انتظار المصعد، التفتت فجأة متسائلة:
«ستنامون؟». .
كنت مكدودا وعندي فيض أودّ الإفصاح عنه، أو التلميح إذا انعدمت القدرة، ولما كان المدد نائيا والمفازة موحشة ملت إلى الانفراد بشجني، يائسا من الظرف، لم أجب، غير أن صاحبي قال:
«لماذا لا نتمّ السهر؟».
كأنه يؤكد اقتراحها، تضمن سؤالها أو تساؤلها عرضا بامتداد السهر، واستنكارا خفيا لشروعنا في النوم، حمت ببصري حولها، مطرقة، طالعت جنبا منها لم أقف عليه إذ بدت ساهمة، راغبة في تجنب أمر ما، أو الابتعاد عن ضجر يخصها، أو أمر لا أعرفه، إذن ففي الأمر غصة، وفي السماء الصافية غيمة، في النبع كدر، أبدى الجميع حماسا، فلما أفصح ترددي، وبان على ملامحي فوجئت بها تتوجه بالخطاب نحوي:
«أطلب إليك أن تجيء»
ولم يكن بوسعي يا أخي إلا أن أمثل وألبي!